[تفريغ] [خطبة جمعة] [موطن النزاع في التكفير والحاكمية] - لفضيلة الشيخ [محمد سعيد رسلان]
صفحة 1 من اصل 1
[تفريغ] [خطبة جمعة] [موطن النزاع في التكفير والحاكمية] - لفضيلة الشيخ [محمد سعيد رسلان]
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومَن اتبع هداه... وبعدُ:
[القراءة المباشرة]
إن الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70].
أمّا بعدُ؛ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-، وشرّ الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالة في النار.
أمّا بعدُ:
فإن تحرير موطن النزاع بين المتنازعَين قبل سَوْقِ الدليل، ودَحض حُجة الخصم من أهم ما عليهما أن يحرصا عليه ويلتفتا إليه.
وكثيراً ما يكتشف خصمان لدودان -بعد جهلٍ منهما وظلمٍ وعدوان- أنهما لتفريطهما في تحرير موطن النزاع بينهما كان متخاصمين فيما الخلاف فيه بينهما لفظيٌّ لا حقيقي!
وقد يستهينان بما فيه الخلاف بينهما؛ لأنهما يظنان -أو أحدهما- أن الخلاف بينهما لفظيٌّ وهو حقيقي!
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى –: "كثيرٌ من نزاع الناسِ سببه ألفاظٌ مجمله ومعانٍ مشتبهة؛ حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولم يَلْزَم أن المخالفَ يكون مخطئًا بل يكونُ في قوله نوعٌ من الصواب، وقد يكون هذا مصيباً من وجه، وهذا مصيباً من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث".اهـ
ومقصود المجادلةِ والمناظرة في حقيقةِ الأمرِ وصدقِ القصدِ هو قطعُ النزاع ورفعه، ولا يتأتى هذا باستعمال المجمل من الألفاظ والمشتبهِ من المعاني؛ فهذا يزيد النزاعَ نزاعًا، ويطيل الكلام في غير طائل وربما أدى ذلك إلى انصراف المتناظرَين عن أصل المسألة والحَيدةِ عنه إلى تلك الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة.
والمجادلة فيما لا يُحررُ فيه موطن النزاع، مجادلةٌ فيما لا يعلم المُحاجُّ وهى مذمومةٌ في كتاب الله -تعالى-، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وقد ذمَّ الله في القرآنِ ثلاثة أنواعٍ من المجادلة:
المحاجةُ فيما لا يعلم المحاجُ، فقال تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر:5].
وقال تعالى -وقد ذمَّ المجادلة في الحق بعد ما تبين-: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال:6].
وكذا ذمَّ اللهُ -تبارك وتعالى- الذي يجادلُ بالباطلِ ليدحضَ الحق كما دلت عليه الآيةُ التي ذكر رحمه الله تعالى".اهـ
وقبول الحق والانقيادُ له وإيثارهُ من أجَلِ نِعم الله على العبد، قال (أبو محمدٍ) -هو ابن حزم رحمه الله- في كتابه " مداواةُ النفوس": "أفضل نِعمِ اللهِ على العبدِ أن يطبعه على العدلِ وحبه، وعلى الحقِ وإيثاره".اهـ
ومدافعةُ الحقِ إذا صار في جهةِ المخالفِ نوعُ كبر، وهى صفةُ مَن لم تتهذب نفسه باتباع الحق.
قال الخطيب البغدادي - رحمه الله – في كتابه "الفقيه والمتفقه": "فينبغي لمن لزمته الحُجة ووضحت له الدلالة أن ينقاد له ويصير إلى مُوجباتها؛ لأن المقصود من النظر والجدل: طلبُ الحق واتباع تكاليف الشرع، قال الله -عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزُّمر:18]".اهـ
وقال - رحمه الله تعالى – في موضعٍ آخر: "ينبغي للمجادل أن يقدِّمَ على جداله تقوى الله لقوله -سبحانه- : ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، ولقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:128].
ويخلص النية في جداله بأن يبتغي به وجه الله -تعالى-، وليكن قصدهِ في نظرهِ إيضاحَ الحق وتثبيته دونَ المغالبةِ للخصم، قال الشافعي- رحمه الله–: "ما كلمتُ أحدًا قطُّ إلا أحببتُ أن يُوفقَ ويُسددَ ويُعانَ وتكونَ عليهِ رعايةً من اللهِ وحفظ، وما كلمتُ أحدًا قطُّ إلا ولم أبالي بيّن الله الحق على لساني أم لسانه".اهـ
وكان الشافعي -رحمه الله- يحلفُ ويقول: "ما ناظرتُ أحدًا إلا على النصيحة".اهـ
وقال أيضًا: "ما ناظرتُ أحدًا، فأحببتُ أن يخطأ".اهـ
وهذا من صدقه -وقد أحله الله -تبارك وتعالى- المحل الذي أحله، وجعله في الإمامةِ من مكانةٍ سامقةٍ عالية بحيث يعلم ذلك كلُّ مسلم-؛ فصدقُ نيةٍ وصلاحُ طَويةٍ وحرصٌ على الوصول إلى الحق ومحبةٌ للخلق.
على المجادِل أن يبني أمره على النصيحةِ لدين الله، والنصيحة للذي يجادله؛ لأنه أجمعُ في الدين، مع أن النصيحة واجبةٌ لجميع المسلمين.
فعن جرير بن عبد الله -رضي الله تبارك وتعالى عنه- فيما أخرجه الشيخان قال: بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على النُّصح لكل مسلم"."مَن غشنا فليس منا".
ولقد كنتُ ذكرتُ -بحول الله وقوته- كثيراً من النقول عن الأستاذ سيد قطب -غفر الله له- حول منهجه في (التكفير العام) تأسيسًا على ما ذهبَ إليه في (مسألة الحاكمية).
ولعدم تحرير موطن النزاع يعتقدُ كثيرًا من الناس أن مَن خالف الرجلَ في المسألتين لا يرى تكفيرَ أحدٍ ولو أتى بأعظمِ المكفرات ولا يرى الحكمَ بما أنزلَ اللهُ لازمًا!!
بل يصرِّحُ بعضهم بأن مَن خالفَ سيدًا ليس إلا مُرجئًا!! يعبد الحكام ويقدسُ الطواغيت!! إلى غير ذلك من تلك المنظومة التي يُنبذُ بها كلُّ مَن خالف في هذين الآمرينِ وفي غيرهما.
وهذا كله مخالفٌ للصواب ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72].
فهذا كلهُ مخالفٌ للصوابِ، بل هو خطأٌ محض، بل هو حُكمٌ بظلمٍ وجهل!!؛ وإنما أوتيَ القومُ من أنهم لم يحرروا موطن النزاع بينهم وبين خصومهم في المسألتين.
فأما (مسألةُ التكفير): فإن أهل السنةِ يؤمنون بأن التكفير حقٌ لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا يجوز التقدمُ بين يدي الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ولا يجوز أن يُطلقَ التكفيرُ في مسألة أو على مُعَيَّنٍ إلا بدليلٍ من الكتابِ والسنة؛ فلا يُكفَّرُ بمعصيةٍ ولا بذنب ولا بمجرد بغضٍ أو كراهيةٍ أو لشهوةٍ أو شبهة! ولكن لابد من دليلٍ شرعي، وحجةٍ وبرهان؛ فإن من كفَّرَ مسلماً فقد كفر!!
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – : "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون مَن خالفهم، وإن كان المخالفُ يكفرهم؛ لأن الكفرَ حُكمٌ شرعي؛ فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثله، فمن كذبَ عليك أو زنا بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزنيَ بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرامٌ لحق الله تعالى.
وكذلك التكفيرُ حقٌ لله -تعالى- فلا يُكفَّرُ إلا مَن كفَّرَهُ اللهُ ورسولُه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وكما أن الإيمان أصلٌ ذو شُعَب، فالكفر كذلك.
ولا يلزم من وجود شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر.
كما أنه ليس كل مَن قامَ به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا حتى يقوم به أصلُ الإيمان.
وقد يكون الفعلُ أو المسألةُ كفرًا، ويُطلق القولُ بتكفير مَن قال تلك المقالة أو فعل ذلك الفعل، ويُقال: مَن قال كذا فهو كافر، أو مَن فعل كذا فهو كافر، لكنَّ الشخصَ المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يُحكمُ بكفره حتى تقوم عليه الحجةُ التي يُكفّرُ تاركها.
وهذا الأمر مضطردٌ في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يُشهد على معين من أهل القبلةِ بأنهُ من أهل النار؛ لجواز ألا يلحقَ -يعني الوعيد- لفوات شرطٍ أو لثبوتِ مانع".اهـ
والتكفيرُ كما مر حقُّ الله -تعالى- وحقُّ رسولِه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قال شيخ الإسلام: "فإن الإيجابَ والتحريم والثواب والعقاب والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحدٍ في هذا حكم؛ وإنما على الناس: إيجابُ ما أوجبه الله ورسوله، وتحريمُ ما حرمه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-".اهـ
فموطنُ النزاع مع (سيدٍ) -غفر الله له- ليس في أصل المسألة -أي في تكفير الكافر-؛ فليس في أهل السنةِ مَن ينازع في تكفير مَن كفره الله وكفرهُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ولكنَّ موطنَ النزاع في تكفيرِ مَن لم تقم الحُجةُ الإلهيةُ الرسوليةُ على تكفيره، وانتفت الشروطُ في حقه وتوفرت الموانع. وأهل السنة أبعدُ الناسِ عن الحكم بكفر من هذه حاله!
فلابد من ثبوت الشروط، ويُقصد بها: تحقق العلم المنافي للجهل، وتحقق القصد المنافي لعدمه، ولابد من انتفاء الموانع: وهى ما يمنع الحكمَ، وهي مقابلةٌ للشروط، وهى منحصرةٌ في أربعة أمورٍ هي: (الجهل المنافي للعلم – والتأويلُ – والخطأُ – والإكراه).
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في "الرد على البكري": "وتكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوفٌ على أن تبلغه الحجةُ النبويةُ التي يُكفّرُ مَن خالفها، وإلا فليس كل مَن جهل شيئًا من الدين يُكفّر.
ولهذا لما استحلَّ طائفةٌ من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابِه شربَ الخمرِ وظنوا أنها تُباحُ لمَن عمل صالحًا، على ما فهموه من آيةِ المائدة، اتفقَ علماءُ الصحابة كعمرَ وعلى وغيرهما - رضي الله عنهم – على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جُلدوا؛ فلم يكفروهم ابتداءً لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق فإذا أصروا على الجحودِ كفروا".اهـ
ثم قال: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله -تعالى- فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال".اهـ
وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.
ولا تلازمَ بين الحكم بكفر القول والفعل وبين قائله وفاعله؛ لأنه قد يقوم مانعٌ يمنع من الحُكم بكفر القائل والفاعل.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولم يُكفِّر أحمد – رحمه الله – أعيان الجهمية ولا كلَّ مَن قال: إنه جهميٌّ كفَّره، ولا كلَّ مَن وافق الجهمية في بعضِ بدعهم، بل صلى -يعني الإمام أحمد- خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا مَن لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعوا لهم ويرى الائتمامَ بهم في الصلوات خلفهم والحجَ والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة.
وينكرُ ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمعُ بين طاعةِ الله ورسوله في إظهار السنةِ والدين وإنكارِ بدعِ الجهميةِ الملحدين وبين رعايةِ حقوق المؤمنين من الأئمةِ والأمة وإن كان أولئك جهالاً مبتدعين وكانوا ظلمةً فاسقين".اهـ
وقال: "وتكفير الجهمية مشهورٌ من السلفِ وعندهم وعند الأئمة، ولكن ما كان -يعني أحمدَ- يُكفِّرَ أعيانهم فإن الذي يدعوا إلى القول أعظمُ من الذي يقوله.
المبتدعُ الداعية أعظمُ إثمًا وأكبرُ جرمًا من المبتدع الذي لا يدعوا إلى بدعته؛ فإن الذي يدعوا إلى القول أعظمُ من الذي يقوله، والذي يعاقب مخالفه أعظمُ من الذي يدعوا فقط، والذي يُكفِّرُ مخالفه أعظمُ من الذي يعاقبه.
ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يُرى في الآخرة وغير ذلك ويدعونَ الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون مَن لم يجبهم حتى إنهم كانوا إذا افتكوا الأسير لا يطلقونه حتى يقرَّ بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة وغير ذلك.
لا يولون متوليًا ولا يعطون رزقًا من بيت المالِ إلا لمَن يقولُ ذلك، ومع هذا فالإمامُ أحمد - رضي الله عنه – ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون لرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا مَن قال ذلك لهم.
فكان يعدهم جهالاً متأولين، يترحم عليهم ويدعوا لهم ويصلي خلفهم ويمنعُ من الخروج عليهم، وهم يدعون إلى هذه البدع المكفرة، ويوالون ويعادون عليها، حتى إن (الواثقَ) ليقتلُ (أحمد بن نصر) بيده ويأمرُ بتعليق رأسه على ضفةِ النهر وبتعليق جسدهِ على الضفةِ الأخرى، ويُكتب عند رأسه: هذا رأس الكافر الضال (أحمدَ بن نصر).
قتله أمير المؤمنين الواثقُ بيده! وكان يحكم عليه بأنه في النار! وكان يأمر أمراءه الذين يبادلون الأسرى ويفتكونهم من أيدي الروم الكافرين، ألا يقبلوا أسيرًا مسلمًا حتى يمتحنوه؛ فإذا أقر بقول الجهمية بادلوا به أسيرًا من الروم في أيديهم وإلا أرجعوا المسلم إلى الكفار مرةً أخرى!! لأنهم يحكمون بكفره.
وقد دعا (المأمونُ) و(المعتصمُ) و(الواثقُ) من بعدهما إلى هذه البدع الكفرية بوقع الصوت وحد السيف، وصار أولئك الأئمة خلف أولئك الجهميةِ الغلاة الذين كفرَ السلفُ المتقدمون مَن قال بمقالتهم.
صاروا خلفهم وتبعوهم في أقوالهم وتولوا مَن اعتقد اعتقادهم وحاربوا مَن قال بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقول الصحابة من بعده – رضي الله عنهم – وبقول التابعين وأهل العلم من أن الله رب العالمين استوى على عرشه، ومن أن الله رب العالمين يُرى في الآخرة، ومن إثباتِ سائرِ ما أثبتَ الله رب العالمين لنفسه من الصفات المثلى في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وشردوا العلماءَ الأئمة كلَّ مُشَرَّدٍ وحددوا إقاماتهم ومنعوهم من الخروج من ديارهم ومن الجلوس في المساجد لتعليم المسلمينَ دين ربهم.
فلا خطيبَ يخطبُ ولا قاضي يحكمُ ولا معلمَ يعلمُ ولا شيخ يجلسُ للصبيانِ في الكتابِ من أجل أن يلقنهم آيات الله -جل وعلا-.
لا يُمكنُ واحدٌ من هؤلاء حتى يكون جهميًا جلدًا منكراً للصفات قائلاً بتلك البدع الكفرية.
وأما أهل الحق من أهل السنة، فقد اُعتدي عليهم؛ فمنهم مَن قُتل، ومنهم مَن حُبس، ومنهم مَن ضُرب، ومنهم مَن دِيسَ بالأقدام، وشُهِّرَ بهم على أنهم من أهل الجهل والبدعةِ والزيغ والضلال!!
ومع ذلك، فالإمام أحمد والأئمة عاملوهم كما وصفَ شيخ الإسلام.
رحم الله علماءنا من أهل السنة، ما أنصحهم للخلق وما أقومهم بأمر الله -جل وعلا- وما أتقاهم لله -رب العالمين- وما أشد حرصَهم على التزامِ أمر سيد المرسلين -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
يقول شيخ الإسلام: ومع هذا -بعد أن ذكر ما ذكر- فالإمام أحمد -رضي الله تعالى عنه- ترحمَ عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا مَن قال ذلك لهم وكان يمنع من الخروج عليهم، كما حدث عندما جاء الفقهاء يؤامرونه على الخروج على (الواثق) وقالوا: لم يعد في قوس الصبر مَنْزَع! لقد وصل الأمر إلى منتهاه!
وهو يناظرهم بقال الله، وقال رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويسوق إليهم الآثار، حتى كفهم عما هموا به -رحمةُ الله عليه- وحذرهم من الفتنةِ والفوضى، ناظراً إلى المصلحةِ العليا للإسلام والمسلمين وللأوطان الإسلامية.
ليس كلُّ مَن نهى عن الخروج على ذي سلطان يكونُ مقرًا فعلَه ولا راضيًا بأمره ولا مقرًا لحكمه!
ولكنَّ أهلَ العلم يرون ما لا يراهُ غيرُهم من أهل البدعة والزيغ والضلال والجهل.
أهلُ العلم يرون البدعةَ إذا أقبلت، وأهل الجهل لا يرونها إلا إذا أدبرت.
أهل العلم يعرفون البدعَ من وجهها، وأهل الضلال لا يعرفون البدعة إلا من قفاها!
فأهل العلم يُحذِّرون..
قال الإمام أحمد للفقهاء -والواثق يفعلُ ما مرَّ ذكرُه وأكثر:
يقتلُ العلماءَ بيده من أهل السنة كـ(أحمدَ بن نصر) -رحمة الله عليه–..
يُسجنُ (البويطيُ) حتى يموت..
يُسجنُ (أبو نعيم) كذلك حتى يُودى به في سجنه..
ويُؤتى بالعلماء بالأغلال والسلاسل، كما حُمل (البويطيُّ) من مصر إلى دارِ الخلافة في أرطالٍ كثيرةٍ من الحديد، أمسك بها لما كان في سجنه، وطلب أن تُدفنَ معه، يقولُ: إني مخاصم يا ربِّ سل هؤلاء لِمَ حبسوني؟!!
والإمامُ (أحمد) من قبل يُضربُ ويُداسُ بالأقدام.. والإمامُ (أحمد) من بَعْدُ في عهد (الواثق) محددةٌ إقامتُه، ومن قَبْلِ ذلك ممنوعٌ من التحديثِ والتعليمِ وأداء الأمانةُ التي حمَّله الله -ربُّ العالمين- إياها من حديث رسول الله.
لا يُولى قاضٍ ولا يُنصبُ معلمٌ ولا يُؤذنُ لخطيبٍ ولا معلمٍ في المكاتبِ للصبيان إلا إذا أتى بتلك الطوام الكفرية من بدع الجهمية.
ومع ذلك فالإمامُ (أحمد) يَكُفُّ الفقهاءَ ويقول: لا تخرجوا عليه، اتقوا الله في دمائكم ودماء المسلمين احذروا الفتنة؛ فيقولون وأيُّ فتنةٍ هي أكبرُ مما نحنُ فيه؟!!
دعوةٌ إلى الكفر والضلال، أيُّ فتنةٍ هي أكبرُ مما نحنُ فيه؟!!
يقولُ: إنما أُريدُ الفتنةَ العامة، ألا تذكرون: تُقطع السبل، تُنتهك الأعراض، تُسلبُ الأموال، تُراقُ الدماء، يضعفُ أهل الإسلام وتقوى شوكةُ أهلُ الكفر إذا تكالبون على أهل الإسلام والحق..
اتقوا الله.. اصبروا حتى يستريحَ بَرٍّ أو يُستراحَ من فاجر.
هل كان (أحمد) راضيًا عما قررهُ (الواثقُ) وحاشيتهُ من الجهمية؟!! هل قبل معتقده؟!! هل أقرَّه؟!! هل أمرَّه؟!! هل سكتَ عنه؟!! ولكنه لم ينزع يدًا من طاعة!! إنها الفتنة!!
فإذا قام من أهل السنة مَن يُحذِّر، أفليست له أسوةٌ في (أحمد)؟!! و(أحمد) أسوته رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابُ رسول الله – رضي الله تبارك وتعالى عنهم–.
الكفرُ يكونُ بالقول بمجرده؛ كمَن سبَّ الله تعالى ورسوله، أو استهزأ بهما أو بالدين.
وقد يكون بمجرد الفعل؛ كمَن يسجدُ لما يُعبدُ من دونِ الله -رب العالمين-.
وقد يكونُ الكفرُ بأمرٍ اعتقادي.
وقد يكونُ بالشك.
وفي جميع ذلك، لابد من توفر الشروط، وانتفاء الموانع حتى يُحكمَ به.
والأمرُ الكفريُ إذا كان يحتمل الكفرَ وغيرَه، لم يُحكمْ بأنه كفرحتى يُتبين، وإذا كان لا يتطرق إليه غير الكفرِ حُكمَ بكفرِ صاحبه بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع وإقامةِ الحجة الربانيةِ الرسولية، وفي قصة حاطِبٍ -رضي الله تبارك وتعالى عنه- في "الصحيحين" الدليلُ على ذلك.
والأصلُ في الحُكمِ على الناس هو الظاهرُ، واللهُ يتولى السرائر؛ وقد راجع الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم- الحبَّ ابن الحبِّ -رضي الله عنهما- أسامة بن زيد لما قتل الرجلَ بعد أن قال "لا إله إلا الله".
كان أسامة – رضي الله عنه – يعتقد أن الرجلَ قالها خوفَ السلاح، وقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: فهلا شققتَ عن قلبه؟! فما زال يقول له: قتلته بعد أن قال: "لا إله إلا الله"؟! قال أسامة: حتى تمنيتُ أني لم أُسلمْ إلا يومئذ. والحديثُ في "الصحيحين".
فالحُكم إنما هو على الظاهر والله -جل وعلا- يتولى السرائر.
ولابد من التفريقِ بين نوعي الكفر؛ فالكفر الأصغرُ لا ينقلُ عن الملة، وأما الأكبرُ فهو ناقلٌ عنها وصاحبه تارك لدينه مفارقٌ للجماعةِ، وهو المرتد.
ومَن ثَبُتَ إسلامُه بيقين لا يُحكمُ بكفرهِ إلا بيقين؛ فإن اليقين لا يزولُ بالشك.
والتكفيرُ بلا مُوجِب أعظمُ ما ابتُليَ به المسلمون، وهو أولُ بدعةٍ ظهرت في دين الإسلام العظيم.
التكفيرُ بلا مُوجِب أولُ بدعةٍ ظهرت في هذا الدين العظيم؛ فإن الخوارجَ لما خرجوا على المسلمين -وهم أصحابُ هذه البدعة- كفروا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم.
والنتائجُ والأحكامُ التي تترتب على تكفير المسلم من الخطورةِ في غاية!
منها -أي من تلك النتائجِ والآثار التي تترتب على تكفير المسلم، يعني إذا كفرت مسلمًا بغير مُوجِب؛ فهذه نتائجُ تكفيره وهذه آثاره-:
وجوبُ التفريقِ بين المكفَّر وزوجه.
وانتقال ولايته عمَّن تحت سلطانهِ وولايته.
ويُنفذُ فيه حكم المرتد بعد استتابته وإزالة الشبهات عنه وإقامةِ الحجةِ عليه.
وإذا مات على كفره لا تُجرى عليه أحكام المسلمين؛ فلا يُغسّلُ، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورّثُ، كما لا يرثُ هو مُوَرِّثَهُ إذا مات مُوَرِّثٌ له.
وأخطرُ تلك النتائجُ وأعظمُ وأفحشُ تلك الآثار أنه مخلَّدٌ في النار!!
فتكفيرُ المسلمِ بغير حق أكبرُ من قتله بما لا يقاس؛ كما سيأتي في حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
تكفيرُ المسلمِ بلا مُوجِب أكبرُ من قتله؛ لذلك قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إذا قال الرجلُ لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما". والحديثُ عند البخاري في "الصحيح".
وعنده -رحمه الله- من رواية ثابتِ بن الضحاك – رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن حلفَ بملةٍ غير الإسلام كاذبًا؛ فهو كما قال، ومَن قتل نفسه بشيءٍ عُذّبَ به في نارِ جهنم، ولَعْنُ المؤمنِ كقتله، ومَن رمى مؤمنًا بكفرٍ؛ فهو كقتله".
هذا التشديدُ كله هو في تكفيرِ مسلمٍ بغير حق؛ فكيف بتكفير المسلمين جماعاتٍ ودول؟!! وكيف بتكفيرِ جميعِ مَن في الأرض؟!!
هذا هو موطنُ النزاع، ليس موطنُ النزاعِ أصلَ المسألة؛ لأنه لابد من تكفير مَن كفّره الله وكفّره رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
موطنُ النزاع هو في:
تكفير المسلم بغير مُوجِب بغير حق!!
هو التوسع في التكفير!!
هو التعميم فيه!!
هو الإتيان بإطلاقات تشمل الجماعات والدول، وتشمل العالمَ كله!!
هذا موطنُ النزاع!، أما تكفيرُ مَن كفّرهُ الله وكفّره رسول الله، فلا يتوقفُ فيه أحدٌ من أهل السنة.
وأما المرجئة: فإنهم لا يرونَ مُكَفِّرًا مُكَفِّرًا؛ لأنهم يجعلون الإيمان حقيقةً ثابتةَ لا تقبل الزيادةَ ولا النقصان، ولا يُدخلون الأعمال في الإيمان.
وأما أهل السنة فيؤمنون بأن الإيمان حقيقةٌ مركبة من: عَقْدِ القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح.
ويرون أن الإيمان يزيد وينقص: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويتفاضلُ أهله فيه.
ولا يُتصور عند أهل السنةِ أن ينطقَ رجلٌ بالشهادتين ثم يبقى دهرَهُ كله لا يعملُ خيرًا مطلقًا! لا بلسانه، ولا بجوارحه، ولا يعود إلى النطق بالشهادتين مطلقًا مع زوال المانع.
يرون أن هذه صورةٌ نظرية لا عملية، لا يُتصور وقوعُ مثلها من المسلم، والشرائعُ لم تُبنَ على الصور النادرة كما قال الإمام العلامةُ ابن القيمِ – رحمه الله تعالى – ، ومع ذلك فهم يقولون: لو وقع هذا فلا يترددُ مسلمٌ في تكفيرِ صاحب تلك الصورة إن وُجِد، ولا يترددون في الحكم عليه بأنه منافقٌ زنديق؛ إذ لا يفعلُ هذا من عنده أدنى حدٍ من الإيمان.
والاستدلالُ بحديثِ أبي سعيد – رضي الله عنه – عند مسلمٍ وغيرِه على غير ذلك فيه نظرٌ ومراجعةٌ من وجوه: منها أن عموم الحديثِ تدخلُ فيه أعمالُ القلوب فهل من قائلٍ به أخذًا بهذا العموم؟!!
والاستدلالُ بهذا الحديث من باب الاستدلال بالأمور المحتمِلات، والاحتمالُ إذا تواردَ على دليلٍ بطلَ الاستدلال به؛ فالاستدلالُ به من باب الاستدلال بالأمور المحتملات، وإذا تطرقَ الاحتمالُ بطلُ الاستدلالُ بالدليل الذي تطرق إليه الاحتمال.
قد يكون الذين أُخرجوا من النار بغير عملٍ عملوه، قد يكونون من الأمم الماضية ففي الحديثِ نفسِه شفعتِ الملائكةُ والنبيون.
وفي حديثِ أبي سعيدٍ في "الصحيحين" في الذي قتل مائةَ نفس، قالت ملائكةُ العذابِ: إنه لم يعمل خيرًا قط!، مع أنه عمل أعمالاً صالحةً.. توجهت إرادته للهجرةِ من أرضه وهى أرض سوء، وذهب مهاجرًا إلى الأرضِ الطيبة؛ فقُبضَ في الطريق.
هذا عملٌ صالحٌ من أفضل الأعمال الصالحة.. لقد ذهبَ مهاجرًا إلى ربه ومع ذلك تقولُ ملائكةُ العذابِ في حقه: إنه لم يعمل خيرًا قط!، مع أنه عمل أعمالاً صالحة؛ كالهجرةِ إلى الأرضِ الطيبة.
فقد يُنفى العملُ ولا يكون النفيُّ كليًا؛ كما في هذا الحديث: إنه لم يعمل خيرًا قط!، مع أنه عملَ عملاً خَيِّرًا.. ذهب مهاجراً إلى ربه.
فليس معنى ألا يُكفر المسلم بغير مُوجِب أن يُصارَ إلى الإرجاءَ الخبيث.
الإجماعُ منعقدٌ على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، والقولُ بأن العمل لا يدخلُ في مسمى الإيمان، وأن الجنةَّ تُنالُ مع زوال العمل أمرٌ تبرأت منه المللُ الباطلةُ!
ففي (جريدةِ الغد) في العدد التاسع، في اليوم الرابعِ، من الشهر الخامس، من السنةِ الخامسةِ بعد الألفين، في الصفحةِ التاسعةِ عشرة: قررت الكنيسةُ القبطيةُ الأرثوذكسيةُ في مصر لأول مرة إنشاء رقابةٍ داخليةٍ للمصنفاتِ الفنيةِ المسيحية -كذا- للسيطرةِ على السلبيات التي صاحبت انتعاش سوق الكاسيت والفيديو المسيحي -كذا- في السنواتِ الأخيرة.
وقد حددت اللجنةُ التي أنشأتها الكنيسةُ عدة محذورات، على رأسها: منعُ الترانيم التي تتحدثُ عن الفوز بالجنةِ من خلال الإيمان دون العمل.
فمنعوا الإرجاء.
الذي مرَ كلهُ لتحرير موطن النزاع في (مسألةِ التكفير).
وأما المسألةُ الثانية فيأتي تحريرُ النزاعِ فيها إن شاء الله -ربُّ العالمين- بحول الله وقوته بعد حين والله المستعان وعليه التُّكلان وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فتحريرُ موطنُ النزاع في المسألة الثانية من المسألتين هو: أنَّ (سيدًا) يعتبرُ الإمامةَ -تبعًا (للمودودي)- مسألةَ المسائلِ في الدين!! وأصلَ الأصول فيه!! وهى ما سماهُ (بالحاكمية).
وأما مسألةُ (الحكمِ بما أنزل الله)، وأما مسألةُ (الإمامةِ) و(الخلافةِ)؛ فلا يُناقشُ في وجوبها مَن شمّ رائحة الإيمان؛ وإنما المراجعةُ في الغُلوِ في ذلك وترتيب الأحكام على المخالفةِ فيه.. هذا موطنُ النزاع.
لا يُنازعُ مسلمٌ في وجوب (الحُكم بما أنزل الله)، ولا يُنازعُ مسلمٌ في (الإمامة)، ولا يُنازعُ مسلمٌ في أمر (الخلافة)، هذا ليس بموطنِ النزاع؛ فنقلُ موطنِ النزاع إليه جهلٌ أو تدليس!!
وإنما موطنُ النزاع هو: هل مسألةُ (الإمامة)، هل مسألة (الحاكمية) هي أصلُ الأصول في الدين، وهى أُسُّ أساسِ الملة؟!! هذا موطن النزاع.
الحاكميةُ والحكمُ من صفات الله -تعالى- ومن خصائصه التي انفردَ -تعالى- بها؛ كما قال -جلَّ وعلا-: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [يوسف:40].
لا ينكرُ هذه (الحاكمية) ولا يجحدُها إلا كافرٌ شديد العداوةِ لله، ولرسولهِ، ولكتبه.
بل من جحد حاكمية الله في جزئية من الجزئيات الفروعية فضلاً عن الأصول فإنه يكونُ كافرًا بالله خارجًا عن دائرة الإسلام، إذا كان جحده لها عن علم، أما الجاهلُ فيُعذرُ حتى تُقام عليه الحجة.
وهذا يَصْدُقُ على الحاكمِ والمحكومين والأفراد والدولة؛ فيصدقُ هذا على الجميع، فَقَصْرُه بذلك المعنى الضيق فيما يتعلقُ بفقه المعاملات ومسائلِ السياسة في الحاكم -وحده- تضييقٌ لما وسّعه الله، بل إنه من الحكمِ بغير ما أنزل الله؛ لأن الله لم يشرع ذلك ولم يحكم به.
وقد قرر ذلك الذي مرّ علماءُ الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخُ الإسلام – رحمه الله – في "منهاج السنة" حيث بيّن أنّ مَن لم يلتزم بحاكمية الله؛ فهو كافر، وبيّن عموم ذلك في الأمور العلمية والعملية، وكذلك قال العلامةُ الإمامُ ابنُ القيمِ في "مدارجِ السالكين".
فمَن التزمَ بهذهِ الحاكمية في أصول الدين وفروعه: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، وفي السياسة، والاقتصاد، والأخلاق؛ فهو المؤمن، ومَن لم يلتزمها في الكل أو في البعضِ -بمعنى أنه يقولُ: إن الله ليس له فيها حُكم-؛ فهذا هو الكافر فردًا كانَ أو جماعة حاكمًا كان أو محكومًا داعيةً كان أو مدعوًا.
ولابد من التزامها في جميع المجالات: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والاقتصاد، والسياسة، وفي باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ولابد من محاربة الشرك والبدعِ والمعاصي والمنكرات.
وقولُه -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة:45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [المائدة:47]، يتناول الأفراد والجماعات والحكام والمحكومين.
يتناول الحكام والمحكومين ويتناول الأفراد والجماعات؛ فقصرُها على الحكام وحدهم دون أهل الأهواءِ والضلال الذين لم يحكموا بشريعة الله في عقائدهم، وفي عبادتهم، وفي أخلاقهم من الجهل والضلال والغباء.
فقد أنزل الله -تبارك وتعالى- تلك الآيات وفيها: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة:45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [المائدة:47]، أنزلها الله -جل وعلا- يومَ نزلت في اليهود، وليس لهم دولةٌ من قرون، أنزلها فيهم أولَ ما نزلت، وقد ضُربت عليهم الذِّلةُ والمسْكنة.
أنزلها الله -يوم أنزلها- في أولئكَ ولا دولة لهم.
أنزلها الله -رب العالمين، يوم أنزلها- في أولئكَ، وقد ضُربت عليهم الذِّلةُ والمسْكنة، ومع ذلك قررَ الله -ربُّ العالمين- ما قرر في تلك الآيات الباهرات.
فموطنُ النزاعِ مع (سيدٍ) في (الحاكمية) ليس في أن الحكمَ لله؛ فهذا لا يُنازعُ فيه مسلم!!، بل هو فريضةُ الله -تعالى- على كل مسلمٍ بحسبه.
وإنما موطن النزاع في: تضييق المعنى الواسعِ الشاملِ للحكم بما أنزل الله؛ حيث قصره (سيدٌ) على فقه المعاملات، وخص به الحكام، وجعله أخصَّ خصائص الألوهية والربوبيةِ والقوامة والسلطان والحاكمية.
وفسَّرَ بالحاكميةِ: "لا إله إلا الله" فوقع الخلطُ بين معنى الألوهية ومعنى الربوبية في الاعتقادِ والعمل -تجاوزَ الله عنا وعنه-.
فلابد من تحرير موطن النزاع، وعندما لا يُحرر موطن النزاع تُكالُ الاتهاماتُ إلى حد التكفير المعلَن!!
كما وقع الخروج عن منهاج الحكم بما أنزل الله في أمر التوحيد، وقع الخروج عن منهاجهِ في أمرِ الشرك فقد وسعه سيدٌ ليشملَ أمورٌ ليست من الشرك في شيء!! كالتقاليد والعادات والأزياء التي ظن (سيدٌ) -عفا الله عنه- أن اتباع البشرِ فيها، مزاولةٌ للشرك في أخص حقيقته، ومخالفة لشهادةِ أنَّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله في أخص حقيقتها.
يقول: ولو توجه العبدُ إلى الله في ألوهيته وحده، ودانَ لشرع الله في الوضوء والصلاةِ والصوم وسائرِ الشعائر؛ فإنه يقضي بأنه وقع في حقيقة الشرك لمخالفته في هذه الأمور بما يتعلق بالتقاليد والعاداتِ والأزياء.
والحقُّ الذي هدى كتابُ الله -تعالى- إليه وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن أوامرَ الله -تعالى- تتفاوتُ بين فرض العين وفرض الكفاية والنافلة، وأن نواهيهُ تعالى تتفاوتُ بين الكبيرةِ الموبقة وأعظمها الشركُ بالله -تعالى- في عبادته، والصغيرةِ من اللمم، وأن من الحكم بغير ما أنزل الله: المساواة بين الفرض والنفل في الأمر، وبين الكبيرةِ والصغيرةِ في النهي، بل إن من الحكم بغير ما أنزل الله: تفريقَ الأمة في الدين أحزابًا.
أشرعَ اللهُ ذلك؟! أحكمَ اللهُ به؟! إذًا مَن فعله؛ فهو حاكم بغير ما أنزل الله.
فمن الحكم بغير ما أنزل الله: تفريق الأمة في الدين أحزابًا وجماعات على مناهج في الدين أو الدعوة تخالفُ منهاج النبوة الذي شرعه الله لجميع من أرسلهم إليهم قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام:159]، وهذا ما يقعُ فيه الحزبيون والحركيون.
فموطنُ النزاعِ إذًا في فهم معنى الحكم بما أنزل الله، وفي تفسير الحاكمية وفي تنزيل ذلك على الواقع وفي ترتيب الأحكام والآثار عليه.
هذا موطنُ النزاع، ولا نعرف مسلمًا يصدق عليه وصفُ الإسلام ينكرُ وجوب الحكم بما أنزل الله أو يوالي مَن يحادهُ ويحاربه، فضلاً عن أن يعبدَ مَن يحادهُ ويحاربه.
هل يعرفُ أحدٌ مسلمًا يوالي مَن يحاربُ الحكمَ بما أنزل الله ويحاده يصدقُ عليه وصف الإسلام؟!
هل يعرفُ أحدٌ في الدنيا كلها، ولا الغُولُ ولا العَنْقَاءُ يعرفان أحدًا يعبدُ مَن يحاد ما أنزل الله، ويحاربُ الحكم بما أنزل الله يعبده.. يعبده من دون الله؟!
فليتقِ الله أقوامٌ من جلدتنا ينطقونَ بألسنتنا ويطلقون الأحكامَ جُزافًا بغير تبصر ولا روية ولا تحرير لموطن النزاع!!
يقولونَ: هم عبادُ الحكام!! عبادُ الطواغيت!!
ويحك أتدري ما يخرجُ من رأسك!! أتكفر المسلمين بغير مُوجِب؟!! لقد حارت عليك!
هل حررت موطن النزاع؟! أتدري مَن يخالفك ما يقول، وما يقرر.
أنت بكلامه جاهل؛ لأنكَ لم تُعَنِّي نفسكَ بمعرفته ولا النظر فيه، وإنما تقيس على صور ذهنيةٍ استدعاها الشيطان إلى مَخِيلَتِك وجعلها بإزاء عين قلبك، فهي لا تحيدُ عنك؛ فتقيسُ غائبًا على حاضرٍ في ذهنك!!
وقد يكونُ مما في ذهنك، ومَن في ذهنك بريئًا!!، لكنه الظلمُ والجهل ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72].
وإني لسائلٌ الأخَ المكرّمَ الذي جعل من وُكْدِه أن يُشهِّرَ بمَن يدعوا إلى الله، يُشهِّرُ به بوسائل العلمانيين والشيوعيين والمنافقين الكذبة، يعتبرها ويعتمدها ويروجها، كأنها كذبةٌ تبلغ الآفاق!!
فويحَ مَن فعل مما أوعدَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-!!
إني لسائله: كيف يستحلُّ ذلك ويقبله ويجتهدُ فيه ويعمله؟!!، وإني لسائله؛ فإن عجزَ عن الإجابةِ فليسأل مرجعياته: ما حُكمُ مَن ظاهرَ المنافقين والعلمانيين الكاذبين على إخوانه من الدعاةِ إلى دين رب العالمين؟!!
ما حُكمُ مَن يُظاهرُ العلمانيين والشيوعيين والمنافقين على الدعاةِ إلى دين رب العالمين؟.. ما حُكمه؟!!
وما حُكم مَن رَوَّجَ كذبَ الكاذبين وافتراء المنافقين وهو خارج عن قول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَن حدّثَ بحديثٍ يُرى -وفي روايةٍ يرى- أنه كذبٌ فهو أحدُ الكاذِبَينِ -وفي رواية فهو أحدُ الكاذِبِين-".
وكيف يخرجُ مما تورط فيه من: السوءة الأخلاقية، والركونِ إلى الذين ظلموا، وهى سوءةٌ أخلاقية بادية؛ فاسترها يا رجل!
وإنا لنقبلُ من كل مخالفٍ مخالفته إلا السوءةَ الأخلاقية، إلا أن يتردى؛ فإذا تردى سقط! لا نعتبره بعد، لا وجود له في الحياة! لقد مات! لا، بل لقد عُدم! لا بل إنه لم يُوجد أصلاً!! إلا السوءةَ الأخلاقية.
ما حُكمُ مَن رَوَّجَ شائعات الذين يحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا؟
نعوذُ بالله من المراء والخصومة، ومن الجدالِ في الدين، ونسأله -تعالى- أن يؤلفَ بين قلوب المسلمين وأن يجمع الجميعَ على طاعته.
إن المرحلةَ التي نمر بها جعلت هذا الوطنَ الإسلامي الحبيب العزيز في مهاب الرياح الأربع.
ولقد منَّ اللهُ -رب العالمين- علينا -هو من فضله لا حول ولا قوة إلا به- بأن سلكنا سبيلَ أئمتنا من السالفين والمعاصرين في التعامل مع الحكامِ، في التعامل مع الفتن.
وحذرنا -ولا يدورُ في ذهن أحد ولا في خياله ولا يراوده في أحلامه- من الفوضى ومن تفسخِ الوطن ومن المخاطر المحيطة به.
وما كانت نبوءة؛ وإنما هي بصيرةُ أهل العلمِ من سلفنا السالفين والمعاصرين في تنزيل الأحكام على الواقع وفي الإيمان بما قاله الله وقال رسوله، وفي الفهم لوقائعِ التاريخ ومجريات الأحوال، وقد كان ما كان!!
ما التفتَ أحدٌ ولا توقف!! وإنما هو شَغْبُ الشاغبين، وتهريج المهرجين، وتَهريف المهرِّفين، وصرنا إلى ما آلنا إليه!!
واليومَ يُطرحُ السؤالُ مفردًا: كيف الخروجُ مما نحنُ فيه؟! كيف؟!!
أبمخالفة الله ومخالفةِ رسوله؟!!
أبالإمعانِ في البعد عن منهاج النبوة الذي أدى البعدُ عنه ابتداءً إلى أن صرنا إلى ما صرنا إليه؟!!
ومرشحون نحنُ والله إلى ما لا يعلمُ العاقبةَ فيه إلا الله!! نسألُ الله العافية.
إنها المصلحةُ العليا للإسلامِ وللمسلمين، إنها المحافظةُ على أرضٍ إسلامية، على أرض الإسلام يُوَحَّدُ فيها الله، ويُرفع فيها توحيدُ الله، نداءًا على المنائر، وفي كل محفل دعوةً إلى الله وإقامةً لأمر الله؛ حفاظً على هذا الميراث الذي أورثناه مَن كان قبلنا من أسلافنا حتى آلَ إلينا.
أفنكون الخلفَ الطالحَ للسلفِ الصالحِ؟!! أنضيعُ الأمانة؟!!
نعبثُ بمقادير الأمة ومقدراتها! نعبثُ بمستقبل الوطنِ الإسلامي؛ لنجعله هدفًا مرصودًا لكل حاقدٍ وحاسدٍ على دين الإسلام العظيم وله، وكل مناوئٍ لتوحيد ربنا -جلَ وعلا- للكفرةِ والمجرمين في الداخلِ والخارج.
يا ويحَ نفسٍ تظل سادرةً في غوايتها!!
ما يتعلقُ بالمرء في نفسه، بالإنسان في شخصه، شيءٌ لا قيمةَ له!
وما المرءُ في جسد الإسلام العظيم؟! ذرةٌ هو فيه!
إن كان ذهابُه من أجل بقائه؛ فلا غَرْوَ واللهِ تلك الصفقةُ الرابحة.
وإن كان المرءُ عاملاً ضد دينه عَلِمَ أم لم يعلم، ولماذا لا يعلم؟!! ولماذا لا يتعلم؟!! ولماذا لا يتوقفوا ليحرروا مواطنَ النزاع؟!!
لماذا يخالف الناس من غير أن يعلمَ فيما يخالفهم؟!! ولماذا يُنازع الناس، وهو لا يعلمُ فيما يُنازعهم؟!!
ما هذا؟!! أذهبتِ العقولُ؟!! أستُلبتْ الألباب؟!!
واحسرتاه!! ثم واحسرتاه!! على حملةِ العلم يقولون: قال الله، قال رسول الله، وهم لا يتوقفون حتى عند تحريرِ مواطنِ النزاع؛ لجمع شمل الأمة؛ لجمع المسلمين على حقيقة الدين.
إذ لا مخلصَ لنا ولا منجى إلا بالأوبةِ الرشيدة، والعودةِ الحميدة إلى منهاجِ النبوة، إلى كتاب الله وسنةِ نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بفهم أصحابه – رضي الله عنهم – ومَن تبعهم بإحسان.
هذه هي سبيلُ النجاة، هذا طريقُ الفلاح، هذه هي المنجاةُ التي مَن أَمَّها أفلح، ومَن حادَ عنها خسرَ الخسران المبين. هذا هو صراط الله المستقيم، مَن شبَّ عنه شبَّ في النار!!
أسأل الله أن يردنا جميعًا إلى الحق ردًا جميلاً، وألا يذيقنا طعمَ أنفسنا، وإذا أرادَ بالناسِ فتنة؛ فإنا نسأله -جلَ وعلا- راغبين راهبين أن يقبضنا إليه غير فاتنين ولا مفتونين ولا خزايا ولا محزونين ولا مغيرين ولا مبدلين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تفريغ/ أم صلاح.
مراجعة، وضبط، وتنسيق/
أبي عبدالرحمن حمدي آل زيد المصريّ
20 من ذي القعدة 1432هـ، الموافق 18/10/2011م.
المصدر
السلام عليكم ورحمة الله.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومَن اتبع هداه... وبعدُ:
[القراءة المباشرة]
إن الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70].
أمّا بعدُ؛ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-، وشرّ الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالة في النار.
أمّا بعدُ:
فإن تحرير موطن النزاع بين المتنازعَين قبل سَوْقِ الدليل، ودَحض حُجة الخصم من أهم ما عليهما أن يحرصا عليه ويلتفتا إليه.
وكثيراً ما يكتشف خصمان لدودان -بعد جهلٍ منهما وظلمٍ وعدوان- أنهما لتفريطهما في تحرير موطن النزاع بينهما كان متخاصمين فيما الخلاف فيه بينهما لفظيٌّ لا حقيقي!
وقد يستهينان بما فيه الخلاف بينهما؛ لأنهما يظنان -أو أحدهما- أن الخلاف بينهما لفظيٌّ وهو حقيقي!
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى –: "كثيرٌ من نزاع الناسِ سببه ألفاظٌ مجمله ومعانٍ مشتبهة؛ حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولم يَلْزَم أن المخالفَ يكون مخطئًا بل يكونُ في قوله نوعٌ من الصواب، وقد يكون هذا مصيباً من وجه، وهذا مصيباً من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث".اهـ
ومقصود المجادلةِ والمناظرة في حقيقةِ الأمرِ وصدقِ القصدِ هو قطعُ النزاع ورفعه، ولا يتأتى هذا باستعمال المجمل من الألفاظ والمشتبهِ من المعاني؛ فهذا يزيد النزاعَ نزاعًا، ويطيل الكلام في غير طائل وربما أدى ذلك إلى انصراف المتناظرَين عن أصل المسألة والحَيدةِ عنه إلى تلك الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة.
والمجادلة فيما لا يُحررُ فيه موطن النزاع، مجادلةٌ فيما لا يعلم المُحاجُّ وهى مذمومةٌ في كتاب الله -تعالى-، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وقد ذمَّ الله في القرآنِ ثلاثة أنواعٍ من المجادلة:
المحاجةُ فيما لا يعلم المحاجُ، فقال تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر:5].
وقال تعالى -وقد ذمَّ المجادلة في الحق بعد ما تبين-: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال:6].
وكذا ذمَّ اللهُ -تبارك وتعالى- الذي يجادلُ بالباطلِ ليدحضَ الحق كما دلت عليه الآيةُ التي ذكر رحمه الله تعالى".اهـ
وقبول الحق والانقيادُ له وإيثارهُ من أجَلِ نِعم الله على العبد، قال (أبو محمدٍ) -هو ابن حزم رحمه الله- في كتابه " مداواةُ النفوس": "أفضل نِعمِ اللهِ على العبدِ أن يطبعه على العدلِ وحبه، وعلى الحقِ وإيثاره".اهـ
ومدافعةُ الحقِ إذا صار في جهةِ المخالفِ نوعُ كبر، وهى صفةُ مَن لم تتهذب نفسه باتباع الحق.
قال الخطيب البغدادي - رحمه الله – في كتابه "الفقيه والمتفقه": "فينبغي لمن لزمته الحُجة ووضحت له الدلالة أن ينقاد له ويصير إلى مُوجباتها؛ لأن المقصود من النظر والجدل: طلبُ الحق واتباع تكاليف الشرع، قال الله -عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزُّمر:18]".اهـ
وقال - رحمه الله تعالى – في موضعٍ آخر: "ينبغي للمجادل أن يقدِّمَ على جداله تقوى الله لقوله -سبحانه- : ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، ولقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:128].
ويخلص النية في جداله بأن يبتغي به وجه الله -تعالى-، وليكن قصدهِ في نظرهِ إيضاحَ الحق وتثبيته دونَ المغالبةِ للخصم، قال الشافعي- رحمه الله–: "ما كلمتُ أحدًا قطُّ إلا أحببتُ أن يُوفقَ ويُسددَ ويُعانَ وتكونَ عليهِ رعايةً من اللهِ وحفظ، وما كلمتُ أحدًا قطُّ إلا ولم أبالي بيّن الله الحق على لساني أم لسانه".اهـ
وكان الشافعي -رحمه الله- يحلفُ ويقول: "ما ناظرتُ أحدًا إلا على النصيحة".اهـ
وقال أيضًا: "ما ناظرتُ أحدًا، فأحببتُ أن يخطأ".اهـ
وهذا من صدقه -وقد أحله الله -تبارك وتعالى- المحل الذي أحله، وجعله في الإمامةِ من مكانةٍ سامقةٍ عالية بحيث يعلم ذلك كلُّ مسلم-؛ فصدقُ نيةٍ وصلاحُ طَويةٍ وحرصٌ على الوصول إلى الحق ومحبةٌ للخلق.
على المجادِل أن يبني أمره على النصيحةِ لدين الله، والنصيحة للذي يجادله؛ لأنه أجمعُ في الدين، مع أن النصيحة واجبةٌ لجميع المسلمين.
فعن جرير بن عبد الله -رضي الله تبارك وتعالى عنه- فيما أخرجه الشيخان قال: بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على النُّصح لكل مسلم"."مَن غشنا فليس منا".
ولقد كنتُ ذكرتُ -بحول الله وقوته- كثيراً من النقول عن الأستاذ سيد قطب -غفر الله له- حول منهجه في (التكفير العام) تأسيسًا على ما ذهبَ إليه في (مسألة الحاكمية).
ولعدم تحرير موطن النزاع يعتقدُ كثيرًا من الناس أن مَن خالف الرجلَ في المسألتين لا يرى تكفيرَ أحدٍ ولو أتى بأعظمِ المكفرات ولا يرى الحكمَ بما أنزلَ اللهُ لازمًا!!
بل يصرِّحُ بعضهم بأن مَن خالفَ سيدًا ليس إلا مُرجئًا!! يعبد الحكام ويقدسُ الطواغيت!! إلى غير ذلك من تلك المنظومة التي يُنبذُ بها كلُّ مَن خالف في هذين الآمرينِ وفي غيرهما.
وهذا كله مخالفٌ للصواب ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72].
فهذا كلهُ مخالفٌ للصوابِ، بل هو خطأٌ محض، بل هو حُكمٌ بظلمٍ وجهل!!؛ وإنما أوتيَ القومُ من أنهم لم يحرروا موطن النزاع بينهم وبين خصومهم في المسألتين.
فأما (مسألةُ التكفير): فإن أهل السنةِ يؤمنون بأن التكفير حقٌ لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا يجوز التقدمُ بين يدي الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ولا يجوز أن يُطلقَ التكفيرُ في مسألة أو على مُعَيَّنٍ إلا بدليلٍ من الكتابِ والسنة؛ فلا يُكفَّرُ بمعصيةٍ ولا بذنب ولا بمجرد بغضٍ أو كراهيةٍ أو لشهوةٍ أو شبهة! ولكن لابد من دليلٍ شرعي، وحجةٍ وبرهان؛ فإن من كفَّرَ مسلماً فقد كفر!!
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – : "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون مَن خالفهم، وإن كان المخالفُ يكفرهم؛ لأن الكفرَ حُكمٌ شرعي؛ فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثله، فمن كذبَ عليك أو زنا بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزنيَ بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرامٌ لحق الله تعالى.
وكذلك التكفيرُ حقٌ لله -تعالى- فلا يُكفَّرُ إلا مَن كفَّرَهُ اللهُ ورسولُه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وكما أن الإيمان أصلٌ ذو شُعَب، فالكفر كذلك.
ولا يلزم من وجود شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يصيرَ كافرًا الكفرَ المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر.
كما أنه ليس كل مَن قامَ به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا حتى يقوم به أصلُ الإيمان.
وقد يكون الفعلُ أو المسألةُ كفرًا، ويُطلق القولُ بتكفير مَن قال تلك المقالة أو فعل ذلك الفعل، ويُقال: مَن قال كذا فهو كافر، أو مَن فعل كذا فهو كافر، لكنَّ الشخصَ المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يُحكمُ بكفره حتى تقوم عليه الحجةُ التي يُكفّرُ تاركها.
وهذا الأمر مضطردٌ في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يُشهد على معين من أهل القبلةِ بأنهُ من أهل النار؛ لجواز ألا يلحقَ -يعني الوعيد- لفوات شرطٍ أو لثبوتِ مانع".اهـ
والتكفيرُ كما مر حقُّ الله -تعالى- وحقُّ رسولِه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قال شيخ الإسلام: "فإن الإيجابَ والتحريم والثواب والعقاب والتكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحدٍ في هذا حكم؛ وإنما على الناس: إيجابُ ما أوجبه الله ورسوله، وتحريمُ ما حرمه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-".اهـ
فموطنُ النزاع مع (سيدٍ) -غفر الله له- ليس في أصل المسألة -أي في تكفير الكافر-؛ فليس في أهل السنةِ مَن ينازع في تكفير مَن كفره الله وكفرهُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ولكنَّ موطنَ النزاع في تكفيرِ مَن لم تقم الحُجةُ الإلهيةُ الرسوليةُ على تكفيره، وانتفت الشروطُ في حقه وتوفرت الموانع. وأهل السنة أبعدُ الناسِ عن الحكم بكفر من هذه حاله!
فلابد من ثبوت الشروط، ويُقصد بها: تحقق العلم المنافي للجهل، وتحقق القصد المنافي لعدمه، ولابد من انتفاء الموانع: وهى ما يمنع الحكمَ، وهي مقابلةٌ للشروط، وهى منحصرةٌ في أربعة أمورٍ هي: (الجهل المنافي للعلم – والتأويلُ – والخطأُ – والإكراه).
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في "الرد على البكري": "وتكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوفٌ على أن تبلغه الحجةُ النبويةُ التي يُكفّرُ مَن خالفها، وإلا فليس كل مَن جهل شيئًا من الدين يُكفّر.
ولهذا لما استحلَّ طائفةٌ من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابِه شربَ الخمرِ وظنوا أنها تُباحُ لمَن عمل صالحًا، على ما فهموه من آيةِ المائدة، اتفقَ علماءُ الصحابة كعمرَ وعلى وغيرهما - رضي الله عنهم – على أنهم يستتابون فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جُلدوا؛ فلم يكفروهم ابتداءً لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق فإذا أصروا على الجحودِ كفروا".اهـ
ثم قال: "ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله -تعالى- فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال".اهـ
وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.
ولا تلازمَ بين الحكم بكفر القول والفعل وبين قائله وفاعله؛ لأنه قد يقوم مانعٌ يمنع من الحُكم بكفر القائل والفاعل.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولم يُكفِّر أحمد – رحمه الله – أعيان الجهمية ولا كلَّ مَن قال: إنه جهميٌّ كفَّره، ولا كلَّ مَن وافق الجهمية في بعضِ بدعهم، بل صلى -يعني الإمام أحمد- خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا مَن لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعوا لهم ويرى الائتمامَ بهم في الصلوات خلفهم والحجَ والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة.
وينكرُ ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمعُ بين طاعةِ الله ورسوله في إظهار السنةِ والدين وإنكارِ بدعِ الجهميةِ الملحدين وبين رعايةِ حقوق المؤمنين من الأئمةِ والأمة وإن كان أولئك جهالاً مبتدعين وكانوا ظلمةً فاسقين".اهـ
وقال: "وتكفير الجهمية مشهورٌ من السلفِ وعندهم وعند الأئمة، ولكن ما كان -يعني أحمدَ- يُكفِّرَ أعيانهم فإن الذي يدعوا إلى القول أعظمُ من الذي يقوله.
المبتدعُ الداعية أعظمُ إثمًا وأكبرُ جرمًا من المبتدع الذي لا يدعوا إلى بدعته؛ فإن الذي يدعوا إلى القول أعظمُ من الذي يقوله، والذي يعاقب مخالفه أعظمُ من الذي يدعوا فقط، والذي يُكفِّرُ مخالفه أعظمُ من الذي يعاقبه.
ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يُرى في الآخرة وغير ذلك ويدعونَ الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفرون مَن لم يجبهم حتى إنهم كانوا إذا افتكوا الأسير لا يطلقونه حتى يقرَّ بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة وغير ذلك.
لا يولون متوليًا ولا يعطون رزقًا من بيت المالِ إلا لمَن يقولُ ذلك، ومع هذا فالإمامُ أحمد - رضي الله عنه – ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون لرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا مَن قال ذلك لهم.
فكان يعدهم جهالاً متأولين، يترحم عليهم ويدعوا لهم ويصلي خلفهم ويمنعُ من الخروج عليهم، وهم يدعون إلى هذه البدع المكفرة، ويوالون ويعادون عليها، حتى إن (الواثقَ) ليقتلُ (أحمد بن نصر) بيده ويأمرُ بتعليق رأسه على ضفةِ النهر وبتعليق جسدهِ على الضفةِ الأخرى، ويُكتب عند رأسه: هذا رأس الكافر الضال (أحمدَ بن نصر).
قتله أمير المؤمنين الواثقُ بيده! وكان يحكم عليه بأنه في النار! وكان يأمر أمراءه الذين يبادلون الأسرى ويفتكونهم من أيدي الروم الكافرين، ألا يقبلوا أسيرًا مسلمًا حتى يمتحنوه؛ فإذا أقر بقول الجهمية بادلوا به أسيرًا من الروم في أيديهم وإلا أرجعوا المسلم إلى الكفار مرةً أخرى!! لأنهم يحكمون بكفره.
وقد دعا (المأمونُ) و(المعتصمُ) و(الواثقُ) من بعدهما إلى هذه البدع الكفرية بوقع الصوت وحد السيف، وصار أولئك الأئمة خلف أولئك الجهميةِ الغلاة الذين كفرَ السلفُ المتقدمون مَن قال بمقالتهم.
صاروا خلفهم وتبعوهم في أقوالهم وتولوا مَن اعتقد اعتقادهم وحاربوا مَن قال بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقول الصحابة من بعده – رضي الله عنهم – وبقول التابعين وأهل العلم من أن الله رب العالمين استوى على عرشه، ومن أن الله رب العالمين يُرى في الآخرة، ومن إثباتِ سائرِ ما أثبتَ الله رب العالمين لنفسه من الصفات المثلى في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وشردوا العلماءَ الأئمة كلَّ مُشَرَّدٍ وحددوا إقاماتهم ومنعوهم من الخروج من ديارهم ومن الجلوس في المساجد لتعليم المسلمينَ دين ربهم.
فلا خطيبَ يخطبُ ولا قاضي يحكمُ ولا معلمَ يعلمُ ولا شيخ يجلسُ للصبيانِ في الكتابِ من أجل أن يلقنهم آيات الله -جل وعلا-.
لا يُمكنُ واحدٌ من هؤلاء حتى يكون جهميًا جلدًا منكراً للصفات قائلاً بتلك البدع الكفرية.
وأما أهل الحق من أهل السنة، فقد اُعتدي عليهم؛ فمنهم مَن قُتل، ومنهم مَن حُبس، ومنهم مَن ضُرب، ومنهم مَن دِيسَ بالأقدام، وشُهِّرَ بهم على أنهم من أهل الجهل والبدعةِ والزيغ والضلال!!
ومع ذلك، فالإمام أحمد والأئمة عاملوهم كما وصفَ شيخ الإسلام.
رحم الله علماءنا من أهل السنة، ما أنصحهم للخلق وما أقومهم بأمر الله -جل وعلا- وما أتقاهم لله -رب العالمين- وما أشد حرصَهم على التزامِ أمر سيد المرسلين -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
يقول شيخ الإسلام: ومع هذا -بعد أن ذكر ما ذكر- فالإمام أحمد -رضي الله تعالى عنه- ترحمَ عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا مَن قال ذلك لهم وكان يمنع من الخروج عليهم، كما حدث عندما جاء الفقهاء يؤامرونه على الخروج على (الواثق) وقالوا: لم يعد في قوس الصبر مَنْزَع! لقد وصل الأمر إلى منتهاه!
وهو يناظرهم بقال الله، وقال رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويسوق إليهم الآثار، حتى كفهم عما هموا به -رحمةُ الله عليه- وحذرهم من الفتنةِ والفوضى، ناظراً إلى المصلحةِ العليا للإسلام والمسلمين وللأوطان الإسلامية.
ليس كلُّ مَن نهى عن الخروج على ذي سلطان يكونُ مقرًا فعلَه ولا راضيًا بأمره ولا مقرًا لحكمه!
ولكنَّ أهلَ العلم يرون ما لا يراهُ غيرُهم من أهل البدعة والزيغ والضلال والجهل.
أهلُ العلم يرون البدعةَ إذا أقبلت، وأهل الجهل لا يرونها إلا إذا أدبرت.
أهل العلم يعرفون البدعَ من وجهها، وأهل الضلال لا يعرفون البدعة إلا من قفاها!
فأهل العلم يُحذِّرون..
قال الإمام أحمد للفقهاء -والواثق يفعلُ ما مرَّ ذكرُه وأكثر:
يقتلُ العلماءَ بيده من أهل السنة كـ(أحمدَ بن نصر) -رحمة الله عليه–..
يُسجنُ (البويطيُ) حتى يموت..
يُسجنُ (أبو نعيم) كذلك حتى يُودى به في سجنه..
ويُؤتى بالعلماء بالأغلال والسلاسل، كما حُمل (البويطيُّ) من مصر إلى دارِ الخلافة في أرطالٍ كثيرةٍ من الحديد، أمسك بها لما كان في سجنه، وطلب أن تُدفنَ معه، يقولُ: إني مخاصم يا ربِّ سل هؤلاء لِمَ حبسوني؟!!
والإمامُ (أحمد) من قبل يُضربُ ويُداسُ بالأقدام.. والإمامُ (أحمد) من بَعْدُ في عهد (الواثق) محددةٌ إقامتُه، ومن قَبْلِ ذلك ممنوعٌ من التحديثِ والتعليمِ وأداء الأمانةُ التي حمَّله الله -ربُّ العالمين- إياها من حديث رسول الله.
لا يُولى قاضٍ ولا يُنصبُ معلمٌ ولا يُؤذنُ لخطيبٍ ولا معلمٍ في المكاتبِ للصبيان إلا إذا أتى بتلك الطوام الكفرية من بدع الجهمية.
ومع ذلك فالإمامُ (أحمد) يَكُفُّ الفقهاءَ ويقول: لا تخرجوا عليه، اتقوا الله في دمائكم ودماء المسلمين احذروا الفتنة؛ فيقولون وأيُّ فتنةٍ هي أكبرُ مما نحنُ فيه؟!!
دعوةٌ إلى الكفر والضلال، أيُّ فتنةٍ هي أكبرُ مما نحنُ فيه؟!!
يقولُ: إنما أُريدُ الفتنةَ العامة، ألا تذكرون: تُقطع السبل، تُنتهك الأعراض، تُسلبُ الأموال، تُراقُ الدماء، يضعفُ أهل الإسلام وتقوى شوكةُ أهلُ الكفر إذا تكالبون على أهل الإسلام والحق..
اتقوا الله.. اصبروا حتى يستريحَ بَرٍّ أو يُستراحَ من فاجر.
هل كان (أحمد) راضيًا عما قررهُ (الواثقُ) وحاشيتهُ من الجهمية؟!! هل قبل معتقده؟!! هل أقرَّه؟!! هل أمرَّه؟!! هل سكتَ عنه؟!! ولكنه لم ينزع يدًا من طاعة!! إنها الفتنة!!
فإذا قام من أهل السنة مَن يُحذِّر، أفليست له أسوةٌ في (أحمد)؟!! و(أحمد) أسوته رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابُ رسول الله – رضي الله تبارك وتعالى عنهم–.
الكفرُ يكونُ بالقول بمجرده؛ كمَن سبَّ الله تعالى ورسوله، أو استهزأ بهما أو بالدين.
وقد يكون بمجرد الفعل؛ كمَن يسجدُ لما يُعبدُ من دونِ الله -رب العالمين-.
وقد يكونُ الكفرُ بأمرٍ اعتقادي.
وقد يكونُ بالشك.
وفي جميع ذلك، لابد من توفر الشروط، وانتفاء الموانع حتى يُحكمَ به.
والأمرُ الكفريُ إذا كان يحتمل الكفرَ وغيرَه، لم يُحكمْ بأنه كفرحتى يُتبين، وإذا كان لا يتطرق إليه غير الكفرِ حُكمَ بكفرِ صاحبه بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع وإقامةِ الحجة الربانيةِ الرسولية، وفي قصة حاطِبٍ -رضي الله تبارك وتعالى عنه- في "الصحيحين" الدليلُ على ذلك.
والأصلُ في الحُكمِ على الناس هو الظاهرُ، واللهُ يتولى السرائر؛ وقد راجع الرسول-صلى الله عليه وآله وسلم- الحبَّ ابن الحبِّ -رضي الله عنهما- أسامة بن زيد لما قتل الرجلَ بعد أن قال "لا إله إلا الله".
كان أسامة – رضي الله عنه – يعتقد أن الرجلَ قالها خوفَ السلاح، وقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: فهلا شققتَ عن قلبه؟! فما زال يقول له: قتلته بعد أن قال: "لا إله إلا الله"؟! قال أسامة: حتى تمنيتُ أني لم أُسلمْ إلا يومئذ. والحديثُ في "الصحيحين".
فالحُكم إنما هو على الظاهر والله -جل وعلا- يتولى السرائر.
ولابد من التفريقِ بين نوعي الكفر؛ فالكفر الأصغرُ لا ينقلُ عن الملة، وأما الأكبرُ فهو ناقلٌ عنها وصاحبه تارك لدينه مفارقٌ للجماعةِ، وهو المرتد.
ومَن ثَبُتَ إسلامُه بيقين لا يُحكمُ بكفرهِ إلا بيقين؛ فإن اليقين لا يزولُ بالشك.
والتكفيرُ بلا مُوجِب أعظمُ ما ابتُليَ به المسلمون، وهو أولُ بدعةٍ ظهرت في دين الإسلام العظيم.
التكفيرُ بلا مُوجِب أولُ بدعةٍ ظهرت في هذا الدين العظيم؛ فإن الخوارجَ لما خرجوا على المسلمين -وهم أصحابُ هذه البدعة- كفروا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم.
والنتائجُ والأحكامُ التي تترتب على تكفير المسلم من الخطورةِ في غاية!
منها -أي من تلك النتائجِ والآثار التي تترتب على تكفير المسلم، يعني إذا كفرت مسلمًا بغير مُوجِب؛ فهذه نتائجُ تكفيره وهذه آثاره-:
وجوبُ التفريقِ بين المكفَّر وزوجه.
وانتقال ولايته عمَّن تحت سلطانهِ وولايته.
ويُنفذُ فيه حكم المرتد بعد استتابته وإزالة الشبهات عنه وإقامةِ الحجةِ عليه.
وإذا مات على كفره لا تُجرى عليه أحكام المسلمين؛ فلا يُغسّلُ، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورّثُ، كما لا يرثُ هو مُوَرِّثَهُ إذا مات مُوَرِّثٌ له.
وأخطرُ تلك النتائجُ وأعظمُ وأفحشُ تلك الآثار أنه مخلَّدٌ في النار!!
فتكفيرُ المسلمِ بغير حق أكبرُ من قتله بما لا يقاس؛ كما سيأتي في حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
تكفيرُ المسلمِ بلا مُوجِب أكبرُ من قتله؛ لذلك قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إذا قال الرجلُ لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما". والحديثُ عند البخاري في "الصحيح".
وعنده -رحمه الله- من رواية ثابتِ بن الضحاك – رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن حلفَ بملةٍ غير الإسلام كاذبًا؛ فهو كما قال، ومَن قتل نفسه بشيءٍ عُذّبَ به في نارِ جهنم، ولَعْنُ المؤمنِ كقتله، ومَن رمى مؤمنًا بكفرٍ؛ فهو كقتله".
هذا التشديدُ كله هو في تكفيرِ مسلمٍ بغير حق؛ فكيف بتكفير المسلمين جماعاتٍ ودول؟!! وكيف بتكفيرِ جميعِ مَن في الأرض؟!!
هذا هو موطنُ النزاع، ليس موطنُ النزاعِ أصلَ المسألة؛ لأنه لابد من تكفير مَن كفّره الله وكفّره رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
موطنُ النزاع هو في:
تكفير المسلم بغير مُوجِب بغير حق!!
هو التوسع في التكفير!!
هو التعميم فيه!!
هو الإتيان بإطلاقات تشمل الجماعات والدول، وتشمل العالمَ كله!!
هذا موطنُ النزاع!، أما تكفيرُ مَن كفّرهُ الله وكفّره رسول الله، فلا يتوقفُ فيه أحدٌ من أهل السنة.
وأما المرجئة: فإنهم لا يرونَ مُكَفِّرًا مُكَفِّرًا؛ لأنهم يجعلون الإيمان حقيقةً ثابتةَ لا تقبل الزيادةَ ولا النقصان، ولا يُدخلون الأعمال في الإيمان.
وأما أهل السنة فيؤمنون بأن الإيمان حقيقةٌ مركبة من: عَقْدِ القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح.
ويرون أن الإيمان يزيد وينقص: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويتفاضلُ أهله فيه.
ولا يُتصور عند أهل السنةِ أن ينطقَ رجلٌ بالشهادتين ثم يبقى دهرَهُ كله لا يعملُ خيرًا مطلقًا! لا بلسانه، ولا بجوارحه، ولا يعود إلى النطق بالشهادتين مطلقًا مع زوال المانع.
يرون أن هذه صورةٌ نظرية لا عملية، لا يُتصور وقوعُ مثلها من المسلم، والشرائعُ لم تُبنَ على الصور النادرة كما قال الإمام العلامةُ ابن القيمِ – رحمه الله تعالى – ، ومع ذلك فهم يقولون: لو وقع هذا فلا يترددُ مسلمٌ في تكفيرِ صاحب تلك الصورة إن وُجِد، ولا يترددون في الحكم عليه بأنه منافقٌ زنديق؛ إذ لا يفعلُ هذا من عنده أدنى حدٍ من الإيمان.
والاستدلالُ بحديثِ أبي سعيد – رضي الله عنه – عند مسلمٍ وغيرِه على غير ذلك فيه نظرٌ ومراجعةٌ من وجوه: منها أن عموم الحديثِ تدخلُ فيه أعمالُ القلوب فهل من قائلٍ به أخذًا بهذا العموم؟!!
والاستدلالُ بهذا الحديث من باب الاستدلال بالأمور المحتمِلات، والاحتمالُ إذا تواردَ على دليلٍ بطلَ الاستدلال به؛ فالاستدلالُ به من باب الاستدلال بالأمور المحتملات، وإذا تطرقَ الاحتمالُ بطلُ الاستدلالُ بالدليل الذي تطرق إليه الاحتمال.
قد يكون الذين أُخرجوا من النار بغير عملٍ عملوه، قد يكونون من الأمم الماضية ففي الحديثِ نفسِه شفعتِ الملائكةُ والنبيون.
وفي حديثِ أبي سعيدٍ في "الصحيحين" في الذي قتل مائةَ نفس، قالت ملائكةُ العذابِ: إنه لم يعمل خيرًا قط!، مع أنه عمل أعمالاً صالحةً.. توجهت إرادته للهجرةِ من أرضه وهى أرض سوء، وذهب مهاجرًا إلى الأرضِ الطيبة؛ فقُبضَ في الطريق.
هذا عملٌ صالحٌ من أفضل الأعمال الصالحة.. لقد ذهبَ مهاجرًا إلى ربه ومع ذلك تقولُ ملائكةُ العذابِ في حقه: إنه لم يعمل خيرًا قط!، مع أنه عمل أعمالاً صالحة؛ كالهجرةِ إلى الأرضِ الطيبة.
فقد يُنفى العملُ ولا يكون النفيُّ كليًا؛ كما في هذا الحديث: إنه لم يعمل خيرًا قط!، مع أنه عملَ عملاً خَيِّرًا.. ذهب مهاجراً إلى ربه.
فليس معنى ألا يُكفر المسلم بغير مُوجِب أن يُصارَ إلى الإرجاءَ الخبيث.
الإجماعُ منعقدٌ على دخول الأعمال في مسمى الإيمان، والقولُ بأن العمل لا يدخلُ في مسمى الإيمان، وأن الجنةَّ تُنالُ مع زوال العمل أمرٌ تبرأت منه المللُ الباطلةُ!
ففي (جريدةِ الغد) في العدد التاسع، في اليوم الرابعِ، من الشهر الخامس، من السنةِ الخامسةِ بعد الألفين، في الصفحةِ التاسعةِ عشرة: قررت الكنيسةُ القبطيةُ الأرثوذكسيةُ في مصر لأول مرة إنشاء رقابةٍ داخليةٍ للمصنفاتِ الفنيةِ المسيحية -كذا- للسيطرةِ على السلبيات التي صاحبت انتعاش سوق الكاسيت والفيديو المسيحي -كذا- في السنواتِ الأخيرة.
وقد حددت اللجنةُ التي أنشأتها الكنيسةُ عدة محذورات، على رأسها: منعُ الترانيم التي تتحدثُ عن الفوز بالجنةِ من خلال الإيمان دون العمل.
فمنعوا الإرجاء.
الذي مرَ كلهُ لتحرير موطن النزاع في (مسألةِ التكفير).
وأما المسألةُ الثانية فيأتي تحريرُ النزاعِ فيها إن شاء الله -ربُّ العالمين- بحول الله وقوته بعد حين والله المستعان وعليه التُّكلان وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فتحريرُ موطنُ النزاع في المسألة الثانية من المسألتين هو: أنَّ (سيدًا) يعتبرُ الإمامةَ -تبعًا (للمودودي)- مسألةَ المسائلِ في الدين!! وأصلَ الأصول فيه!! وهى ما سماهُ (بالحاكمية).
وأما مسألةُ (الحكمِ بما أنزل الله)، وأما مسألةُ (الإمامةِ) و(الخلافةِ)؛ فلا يُناقشُ في وجوبها مَن شمّ رائحة الإيمان؛ وإنما المراجعةُ في الغُلوِ في ذلك وترتيب الأحكام على المخالفةِ فيه.. هذا موطنُ النزاع.
لا يُنازعُ مسلمٌ في وجوب (الحُكم بما أنزل الله)، ولا يُنازعُ مسلمٌ في (الإمامة)، ولا يُنازعُ مسلمٌ في أمر (الخلافة)، هذا ليس بموطنِ النزاع؛ فنقلُ موطنِ النزاع إليه جهلٌ أو تدليس!!
وإنما موطنُ النزاع هو: هل مسألةُ (الإمامة)، هل مسألة (الحاكمية) هي أصلُ الأصول في الدين، وهى أُسُّ أساسِ الملة؟!! هذا موطن النزاع.
الحاكميةُ والحكمُ من صفات الله -تعالى- ومن خصائصه التي انفردَ -تعالى- بها؛ كما قال -جلَّ وعلا-: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [يوسف:40].
لا ينكرُ هذه (الحاكمية) ولا يجحدُها إلا كافرٌ شديد العداوةِ لله، ولرسولهِ، ولكتبه.
بل من جحد حاكمية الله في جزئية من الجزئيات الفروعية فضلاً عن الأصول فإنه يكونُ كافرًا بالله خارجًا عن دائرة الإسلام، إذا كان جحده لها عن علم، أما الجاهلُ فيُعذرُ حتى تُقام عليه الحجة.
وهذا يَصْدُقُ على الحاكمِ والمحكومين والأفراد والدولة؛ فيصدقُ هذا على الجميع، فَقَصْرُه بذلك المعنى الضيق فيما يتعلقُ بفقه المعاملات ومسائلِ السياسة في الحاكم -وحده- تضييقٌ لما وسّعه الله، بل إنه من الحكمِ بغير ما أنزل الله؛ لأن الله لم يشرع ذلك ولم يحكم به.
وقد قرر ذلك الذي مرّ علماءُ الإسلام المعتبرون، ومنهم شيخُ الإسلام – رحمه الله – في "منهاج السنة" حيث بيّن أنّ مَن لم يلتزم بحاكمية الله؛ فهو كافر، وبيّن عموم ذلك في الأمور العلمية والعملية، وكذلك قال العلامةُ الإمامُ ابنُ القيمِ في "مدارجِ السالكين".
فمَن التزمَ بهذهِ الحاكمية في أصول الدين وفروعه: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، وفي السياسة، والاقتصاد، والأخلاق؛ فهو المؤمن، ومَن لم يلتزمها في الكل أو في البعضِ -بمعنى أنه يقولُ: إن الله ليس له فيها حُكم-؛ فهذا هو الكافر فردًا كانَ أو جماعة حاكمًا كان أو محكومًا داعيةً كان أو مدعوًا.
ولابد من التزامها في جميع المجالات: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والاقتصاد، والسياسة، وفي باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ولابد من محاربة الشرك والبدعِ والمعاصي والمنكرات.
وقولُه -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة:45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [المائدة:47]، يتناول الأفراد والجماعات والحكام والمحكومين.
يتناول الحكام والمحكومين ويتناول الأفراد والجماعات؛ فقصرُها على الحكام وحدهم دون أهل الأهواءِ والضلال الذين لم يحكموا بشريعة الله في عقائدهم، وفي عبادتهم، وفي أخلاقهم من الجهل والضلال والغباء.
فقد أنزل الله -تبارك وتعالى- تلك الآيات وفيها: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة:45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [المائدة:47]، أنزلها الله -جل وعلا- يومَ نزلت في اليهود، وليس لهم دولةٌ من قرون، أنزلها فيهم أولَ ما نزلت، وقد ضُربت عليهم الذِّلةُ والمسْكنة.
أنزلها الله -يوم أنزلها- في أولئكَ ولا دولة لهم.
أنزلها الله -رب العالمين، يوم أنزلها- في أولئكَ، وقد ضُربت عليهم الذِّلةُ والمسْكنة، ومع ذلك قررَ الله -ربُّ العالمين- ما قرر في تلك الآيات الباهرات.
فموطنُ النزاعِ مع (سيدٍ) في (الحاكمية) ليس في أن الحكمَ لله؛ فهذا لا يُنازعُ فيه مسلم!!، بل هو فريضةُ الله -تعالى- على كل مسلمٍ بحسبه.
وإنما موطن النزاع في: تضييق المعنى الواسعِ الشاملِ للحكم بما أنزل الله؛ حيث قصره (سيدٌ) على فقه المعاملات، وخص به الحكام، وجعله أخصَّ خصائص الألوهية والربوبيةِ والقوامة والسلطان والحاكمية.
وفسَّرَ بالحاكميةِ: "لا إله إلا الله" فوقع الخلطُ بين معنى الألوهية ومعنى الربوبية في الاعتقادِ والعمل -تجاوزَ الله عنا وعنه-.
فلابد من تحرير موطن النزاع، وعندما لا يُحرر موطن النزاع تُكالُ الاتهاماتُ إلى حد التكفير المعلَن!!
كما وقع الخروج عن منهاج الحكم بما أنزل الله في أمر التوحيد، وقع الخروج عن منهاجهِ في أمرِ الشرك فقد وسعه سيدٌ ليشملَ أمورٌ ليست من الشرك في شيء!! كالتقاليد والعادات والأزياء التي ظن (سيدٌ) -عفا الله عنه- أن اتباع البشرِ فيها، مزاولةٌ للشرك في أخص حقيقته، ومخالفة لشهادةِ أنَّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله في أخص حقيقتها.
يقول: ولو توجه العبدُ إلى الله في ألوهيته وحده، ودانَ لشرع الله في الوضوء والصلاةِ والصوم وسائرِ الشعائر؛ فإنه يقضي بأنه وقع في حقيقة الشرك لمخالفته في هذه الأمور بما يتعلق بالتقاليد والعاداتِ والأزياء.
والحقُّ الذي هدى كتابُ الله -تعالى- إليه وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن أوامرَ الله -تعالى- تتفاوتُ بين فرض العين وفرض الكفاية والنافلة، وأن نواهيهُ تعالى تتفاوتُ بين الكبيرةِ الموبقة وأعظمها الشركُ بالله -تعالى- في عبادته، والصغيرةِ من اللمم، وأن من الحكم بغير ما أنزل الله: المساواة بين الفرض والنفل في الأمر، وبين الكبيرةِ والصغيرةِ في النهي، بل إن من الحكم بغير ما أنزل الله: تفريقَ الأمة في الدين أحزابًا.
أشرعَ اللهُ ذلك؟! أحكمَ اللهُ به؟! إذًا مَن فعله؛ فهو حاكم بغير ما أنزل الله.
فمن الحكم بغير ما أنزل الله: تفريق الأمة في الدين أحزابًا وجماعات على مناهج في الدين أو الدعوة تخالفُ منهاج النبوة الذي شرعه الله لجميع من أرسلهم إليهم قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام:159]، وهذا ما يقعُ فيه الحزبيون والحركيون.
فموطنُ النزاعِ إذًا في فهم معنى الحكم بما أنزل الله، وفي تفسير الحاكمية وفي تنزيل ذلك على الواقع وفي ترتيب الأحكام والآثار عليه.
هذا موطنُ النزاع، ولا نعرف مسلمًا يصدق عليه وصفُ الإسلام ينكرُ وجوب الحكم بما أنزل الله أو يوالي مَن يحادهُ ويحاربه، فضلاً عن أن يعبدَ مَن يحادهُ ويحاربه.
هل يعرفُ أحدٌ مسلمًا يوالي مَن يحاربُ الحكمَ بما أنزل الله ويحاده يصدقُ عليه وصف الإسلام؟!
هل يعرفُ أحدٌ في الدنيا كلها، ولا الغُولُ ولا العَنْقَاءُ يعرفان أحدًا يعبدُ مَن يحاد ما أنزل الله، ويحاربُ الحكم بما أنزل الله يعبده.. يعبده من دون الله؟!
فليتقِ الله أقوامٌ من جلدتنا ينطقونَ بألسنتنا ويطلقون الأحكامَ جُزافًا بغير تبصر ولا روية ولا تحرير لموطن النزاع!!
يقولونَ: هم عبادُ الحكام!! عبادُ الطواغيت!!
ويحك أتدري ما يخرجُ من رأسك!! أتكفر المسلمين بغير مُوجِب؟!! لقد حارت عليك!
هل حررت موطن النزاع؟! أتدري مَن يخالفك ما يقول، وما يقرر.
أنت بكلامه جاهل؛ لأنكَ لم تُعَنِّي نفسكَ بمعرفته ولا النظر فيه، وإنما تقيس على صور ذهنيةٍ استدعاها الشيطان إلى مَخِيلَتِك وجعلها بإزاء عين قلبك، فهي لا تحيدُ عنك؛ فتقيسُ غائبًا على حاضرٍ في ذهنك!!
وقد يكونُ مما في ذهنك، ومَن في ذهنك بريئًا!!، لكنه الظلمُ والجهل ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72].
وإني لسائلٌ الأخَ المكرّمَ الذي جعل من وُكْدِه أن يُشهِّرَ بمَن يدعوا إلى الله، يُشهِّرُ به بوسائل العلمانيين والشيوعيين والمنافقين الكذبة، يعتبرها ويعتمدها ويروجها، كأنها كذبةٌ تبلغ الآفاق!!
فويحَ مَن فعل مما أوعدَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-!!
إني لسائله: كيف يستحلُّ ذلك ويقبله ويجتهدُ فيه ويعمله؟!!، وإني لسائله؛ فإن عجزَ عن الإجابةِ فليسأل مرجعياته: ما حُكمُ مَن ظاهرَ المنافقين والعلمانيين الكاذبين على إخوانه من الدعاةِ إلى دين رب العالمين؟!!
ما حُكمُ مَن يُظاهرُ العلمانيين والشيوعيين والمنافقين على الدعاةِ إلى دين رب العالمين؟.. ما حُكمه؟!!
وما حُكم مَن رَوَّجَ كذبَ الكاذبين وافتراء المنافقين وهو خارج عن قول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَن حدّثَ بحديثٍ يُرى -وفي روايةٍ يرى- أنه كذبٌ فهو أحدُ الكاذِبَينِ -وفي رواية فهو أحدُ الكاذِبِين-".
وكيف يخرجُ مما تورط فيه من: السوءة الأخلاقية، والركونِ إلى الذين ظلموا، وهى سوءةٌ أخلاقية بادية؛ فاسترها يا رجل!
وإنا لنقبلُ من كل مخالفٍ مخالفته إلا السوءةَ الأخلاقية، إلا أن يتردى؛ فإذا تردى سقط! لا نعتبره بعد، لا وجود له في الحياة! لقد مات! لا، بل لقد عُدم! لا بل إنه لم يُوجد أصلاً!! إلا السوءةَ الأخلاقية.
ما حُكمُ مَن رَوَّجَ شائعات الذين يحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا؟
نعوذُ بالله من المراء والخصومة، ومن الجدالِ في الدين، ونسأله -تعالى- أن يؤلفَ بين قلوب المسلمين وأن يجمع الجميعَ على طاعته.
إن المرحلةَ التي نمر بها جعلت هذا الوطنَ الإسلامي الحبيب العزيز في مهاب الرياح الأربع.
ولقد منَّ اللهُ -رب العالمين- علينا -هو من فضله لا حول ولا قوة إلا به- بأن سلكنا سبيلَ أئمتنا من السالفين والمعاصرين في التعامل مع الحكامِ، في التعامل مع الفتن.
وحذرنا -ولا يدورُ في ذهن أحد ولا في خياله ولا يراوده في أحلامه- من الفوضى ومن تفسخِ الوطن ومن المخاطر المحيطة به.
وما كانت نبوءة؛ وإنما هي بصيرةُ أهل العلمِ من سلفنا السالفين والمعاصرين في تنزيل الأحكام على الواقع وفي الإيمان بما قاله الله وقال رسوله، وفي الفهم لوقائعِ التاريخ ومجريات الأحوال، وقد كان ما كان!!
ما التفتَ أحدٌ ولا توقف!! وإنما هو شَغْبُ الشاغبين، وتهريج المهرجين، وتَهريف المهرِّفين، وصرنا إلى ما آلنا إليه!!
واليومَ يُطرحُ السؤالُ مفردًا: كيف الخروجُ مما نحنُ فيه؟! كيف؟!!
أبمخالفة الله ومخالفةِ رسوله؟!!
أبالإمعانِ في البعد عن منهاج النبوة الذي أدى البعدُ عنه ابتداءً إلى أن صرنا إلى ما صرنا إليه؟!!
ومرشحون نحنُ والله إلى ما لا يعلمُ العاقبةَ فيه إلا الله!! نسألُ الله العافية.
إنها المصلحةُ العليا للإسلامِ وللمسلمين، إنها المحافظةُ على أرضٍ إسلامية، على أرض الإسلام يُوَحَّدُ فيها الله، ويُرفع فيها توحيدُ الله، نداءًا على المنائر، وفي كل محفل دعوةً إلى الله وإقامةً لأمر الله؛ حفاظً على هذا الميراث الذي أورثناه مَن كان قبلنا من أسلافنا حتى آلَ إلينا.
أفنكون الخلفَ الطالحَ للسلفِ الصالحِ؟!! أنضيعُ الأمانة؟!!
نعبثُ بمقادير الأمة ومقدراتها! نعبثُ بمستقبل الوطنِ الإسلامي؛ لنجعله هدفًا مرصودًا لكل حاقدٍ وحاسدٍ على دين الإسلام العظيم وله، وكل مناوئٍ لتوحيد ربنا -جلَ وعلا- للكفرةِ والمجرمين في الداخلِ والخارج.
يا ويحَ نفسٍ تظل سادرةً في غوايتها!!
ما يتعلقُ بالمرء في نفسه، بالإنسان في شخصه، شيءٌ لا قيمةَ له!
وما المرءُ في جسد الإسلام العظيم؟! ذرةٌ هو فيه!
إن كان ذهابُه من أجل بقائه؛ فلا غَرْوَ واللهِ تلك الصفقةُ الرابحة.
وإن كان المرءُ عاملاً ضد دينه عَلِمَ أم لم يعلم، ولماذا لا يعلم؟!! ولماذا لا يتعلم؟!! ولماذا لا يتوقفوا ليحرروا مواطنَ النزاع؟!!
لماذا يخالف الناس من غير أن يعلمَ فيما يخالفهم؟!! ولماذا يُنازع الناس، وهو لا يعلمُ فيما يُنازعهم؟!!
ما هذا؟!! أذهبتِ العقولُ؟!! أستُلبتْ الألباب؟!!
واحسرتاه!! ثم واحسرتاه!! على حملةِ العلم يقولون: قال الله، قال رسول الله، وهم لا يتوقفون حتى عند تحريرِ مواطنِ النزاع؛ لجمع شمل الأمة؛ لجمع المسلمين على حقيقة الدين.
إذ لا مخلصَ لنا ولا منجى إلا بالأوبةِ الرشيدة، والعودةِ الحميدة إلى منهاجِ النبوة، إلى كتاب الله وسنةِ نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بفهم أصحابه – رضي الله عنهم – ومَن تبعهم بإحسان.
هذه هي سبيلُ النجاة، هذا طريقُ الفلاح، هذه هي المنجاةُ التي مَن أَمَّها أفلح، ومَن حادَ عنها خسرَ الخسران المبين. هذا هو صراط الله المستقيم، مَن شبَّ عنه شبَّ في النار!!
أسأل الله أن يردنا جميعًا إلى الحق ردًا جميلاً، وألا يذيقنا طعمَ أنفسنا، وإذا أرادَ بالناسِ فتنة؛ فإنا نسأله -جلَ وعلا- راغبين راهبين أن يقبضنا إليه غير فاتنين ولا مفتونين ولا خزايا ولا محزونين ولا مغيرين ولا مبدلين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تفريغ/ أم صلاح.
مراجعة، وضبط، وتنسيق/
أبي عبدالرحمن حمدي آل زيد المصريّ
20 من ذي القعدة 1432هـ، الموافق 18/10/2011م.
المصدر
مواضيع مماثلة
» [تفريغ] [خطبة جمعة] [أصول دعوتنا] - فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان
» [خطبة جمعة] [أصحاب التجارب الفاشلة] - فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان
» [خطبة مفرغة] الاحتفال بالمولد النبوي - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: القنوط من رحمة الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: تعظيم حرمات الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
» [خطبة جمعة] [أصحاب التجارب الفاشلة] - فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان
» [خطبة مفرغة] الاحتفال بالمولد النبوي - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: القنوط من رحمة الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: تعظيم حرمات الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى