[خطبة جمعة] [أصحاب التجارب الفاشلة] - فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان
صفحة 1 من اصل 1
[خطبة جمعة] [أصحاب التجارب الفاشلة] - فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هُداه... وبعدُ:
تم -بحمد الله- الانتهاء من تفريغ خطبة الجمعة [أصحاب التجارب الفاشلة] - لفضيلة الشيخ/ محمد سعيد أحمد رسلان -حفظه الله-.
في هذه الخطبة تحدث الشيخ -حفظه الله- عن الصدق وحقيقته، والكذب وماهيته، وعن الإحسان وشموليته؛ "فكما أمرَ الله -جل وعلا- بالإحسان في الأفعال، أمرَ بالإحسان في الأقوال".
و"الطريقُ إلى الجنة: بالصدق في الإسلام، والإحسانِ في متابعة النبي الهُمام؛ فهما أمرانُ: صدقٌ، وإحسان".
وبالجملةِ فالخطبةُ ماتعةٌ في بابها! فريدةٌ عن مثيلاتها!
واجهة ملف التفريغ:
تحميل ملف التفريغ بصيغة PDF - جاهز للطباعة والنشر- 16 ورقة
اضغط هنا للتحميل.
السلام عليكم ورحمة الله.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هُداه... وبعدُ:
تم -بحمد الله- الانتهاء من تفريغ خطبة الجمعة [أصحاب التجارب الفاشلة] - لفضيلة الشيخ/ محمد سعيد أحمد رسلان -حفظه الله-.
في هذه الخطبة تحدث الشيخ -حفظه الله- عن الصدق وحقيقته، والكذب وماهيته، وعن الإحسان وشموليته؛ "فكما أمرَ الله -جل وعلا- بالإحسان في الأفعال، أمرَ بالإحسان في الأقوال".
و"الطريقُ إلى الجنة: بالصدق في الإسلام، والإحسانِ في متابعة النبي الهُمام؛ فهما أمرانُ: صدقٌ، وإحسان".
وبالجملةِ فالخطبةُ ماتعةٌ في بابها! فريدةٌ عن مثيلاتها!
واجهة ملف التفريغ:
تحميل ملف التفريغ بصيغة PDF - جاهز للطباعة والنشر- 16 ورقة
اضغط هنا للتحميل.
رد: [خطبة جمعة] [أصحاب التجارب الفاشلة] - فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان
التفريغ :
[القراءة المباشرة]
إن الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادِي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70].
أمّا بعدُ؛ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أمّا بعدُ:
فإن الله -تعالى- أمر بالصدق، وحثَّ عليه، ونهى عن الكذب، وحذَّر منه، والصدقُ من صفات المؤمنين، وعكسُه -وهو الكذبُ- من سِمات المنافقين.
قال -تعالى-: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب:24].
وقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119].
وهذه الآيةُ الكريمة نزلت بعد قصة الثلاثة الذين خُلفوا عن غزوة "تَبُوك".
وكان هؤلاء الثلاثةُ قد تخلفوا عن الغزوة بلا عذر؛ فلما رجع الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- صدقوه؛ فأخبروه أنهم تخلفوا بلا عذرٍ؛ فخلَّفهم -أي تركهم-، قال -تعالى-: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة:118]. أي تُركوا؛ فلم يُبَتَّ في شأنهم، ولم يُحسم في أمرهم؛ لأن المنافقين لما قدم الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- من غزوة "تَبُوك" جاءوا إليه يعتذرون حالفين بالله -رب العالمين- إنهم لمعذورون، وفيهم أنزل اللهُ -جل وعلا-: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:95-96].
أما هؤلاء الثلاثة -وقد صدقوا الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وأخبروه أنهم ليس لهم عذر- فأرجأهم الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- خمسين ليلة حتى ﴿ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ [التوبة:118].
ثم أنزل الله توبته عليهم، ثم قال ربنا -جل وعلا- بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119]. فأمر اللهُ -رب العالمين- أن يتقوا الله، وأن يكونوا مع الصادقين، لا مع الكاذبين.
والصدقُ: مطابقةُ الخبر للواقع. هذا في الأصل، ويكون في الأخبار؛ فإذا أخبرتَ بشيءٍ، وكان خبرُكَ مطابقًا للواقع، قِيلَ: إنه صدق، وإلا فكذب. فإذا أخبرتَ عن هذا اليومِ -مثلاً-: اليومُ يومُ الجمعة؛ فهذا خبرٌ صدق، وإذا قلتَ: اليومَ يومُ الاثنين؛ فهذا خبرٌ كذب.
فالخبرُ إن وافق الواقع؛ فصدق، وإلا فكذب.
وكما يكون الصدقُ في الأقوال؛ فهو في الأفعال، وهو أن يكون باطنُ الإنسان موافقًا لظاهره بحيث إذا عمل عملاً يكون عملُه موافقًا لما في قلبه.
فالمرائي -مثلاً- ليس بصادق؛ لأنه يُظهر للناس أنه من العابدين وليس كذلك.
والمشركُ بالله ليس بصادق؛ لأنه يُظهر أنه موحدٌ وليس كذلك.
والمنافق ليس بصادق؛ لأنه يُظهر الإيمانَ وليس بمؤمن.
والمبتدع ليس بصادق؛ لأنه يُظهر الاتباع للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وليس بمتبع.
لقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه بالتجهز لغزوة "تَبُوك"، وهي غزوة "العُسْرَة" في أشدِّ ما يكون الناسُ في الحرِّ، وأطيبِ ما يكون الناسُ لو بقوا في ديارهم؛ فالوقتُ وقتُ قَيْظٍ يشوي الجلود، والوقتُ وقتُ طيب الثمار وحُسْن الظلال.
فتخلف المنافقون، وتخلف ثلاثةٌ من المؤمنين الصادقين، وهم: كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، تخلفوا؛ فَخُلفوا أي خلف الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- البَتَّ في أمرهم؛ حتى ينظرَ ما يكون حُكم الله -تعالى- فيهم.
خُلِّفوا خمسين ليلة ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:118]. ثم قال -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119].
في الصحيحين من رواية عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنَّ الصدق يهدي إلى البِر، وإنَّ البر يهدي إلى الجنة، وإنَّ الرجلَ ليصدق حتى يُكتب عند الله صِديقًا، وإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، وإنَّ الرجلَ ليكذبُ حتى يُكتب عند الله كذابًا".
عليكم بالصدق. أي: الزموا الصدقَ، ولا تفارقوه.
والصدق: مطابقة الخبر للواقع، والخبر يكون باللسان، ويكون بالأركان؛ فأما اللسان: فهو القول. وأما الأركان: فهو الفعل؛ فقد يكون الكذب بالفعل: إذا فعل الإنسانُ خلافَ ما يُبطن؛ فهذا كذب بفعله.
فالصدق، صدق الباطن، صدق الظاهر، مواطئًا لصدق الباطن.
والكذب كما يكون بالمقال، يكون بالفِعال؛ فإذا أظهر الإنسانُ ما ليس بمُضمرٍ له؛ فهو كاذب.
وإذا لم يواطِئ العملُ ما في القلبِ؛ فهذا كذب؛ لأن الصدقَ مطابقة الخبر والفعل للواقع، فمتى طابق الخبرُ الواقعَ؛ فهو صدق -هذا باللسان-، ومتى طابقت أعمالُ الجوارحِ ما في القلب؛ فهذا صدقٌ بالأفعال.
(وإنَّ الصدق يهدي إلى البِر): والبرُّ: كلمةٌ جامعةٌ لكل خير، ومن أسماء الله -جل وعلا- البَرُّ؛ أي كثير الخير والإحسان -عز وجل-.
وصاحبُ البر يهديه بِرُّه إلى الجنة، والجنةُ غايةُ كلِّ طالبٍ.
(وإنَّ الرجلَ ليصدق حتى يُكتب عند الله صِديقًا)، وفي رواية: (وما يزال الرجل يصدقُ ويتحرى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صديقًا): والصِّديق في المرتبة الثانية من الخلق الذين أنعم اللهُ عليهم، كما قال -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
الصديقيةُ تكون في الرجال، وتكون في النساء، قال -جل وعلا-: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة:75].
وأفضلُ الصديقين على الإطلاق أصدقُهم، وهو أبو بكرٍ -رضوان الله عليه-.
وإياكم والكذب (فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور): إذا كذب الرجل أخذ كذبُه بقلبِه إلى الفجور، وما يزال يتحرى الكذبَ؛ حتى يُكتب عند الله كذابًا.
والفجور: الخروج من طاعة الله -عز وجل-؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى طورَه، ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته.
وأعظم الفجور: الكفر؛ فإن الكفرةَ فجرةٌ كما قال الله -جل وعلا-: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس:42].
عرَّفهم الله -تبارك وتعالى- بذلكَ وأتى بالضمير، والجملةِ المُعرَّفة الطرفين يدل على انحصار الفجور فيهم، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار:14].
(وإن الرجل ليكذبُ -وفي رواية: ويتحرى الكذبَ- حتى يُكتبَ عند الله كذابًا): ومن أعظم الكذب ما يفعله الناسُ اليومَ من الإتيان بالمقالات الكاذبة من أجل أن يُضحك الناسَ.
في حديث معاوية بن حَيدة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ويلٌ! لمَن حدَّثَ فكذبَ؛ ليُضحكَ به القومَ، ويلٌ له! ثم ويلٌ له!". أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، بإسنادٍ حسن.
ومن أشد الكذب: اليمينُ الغَموس التي تغمسُ صاحبَها في الإثم ثم تغمسُ صاحبَها في النار؛ ففي الصحيحين عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَن حلف على يمينِ صبرٍ هو فيها فاجرٌ يقتطعُ بها مالَ امرئٍ مسلم، لَقِي اللهَ وهو عليه غضبان".
وعند مسلم من رواية أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَن اقتطع -أي أخذ- حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه؛ فقد أوجب الله له النارَ وحرَّم عليه الجنة"، فقال رجلٌ: وإنْ كان شيئًا يسيرًا يا رسولَ الله! فقال: "وإنْ قَضيبًا من أراك".
إذا (اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ): أي أخذه بيمينٍ غَموسٍ فاجرة؛ فأخذ ما ليس له بحق ولو كان شيئًا يسيرًا، ولو كان قضيبًا من أرك، كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أوجب اللهُ له النارَ، وحرَّم عليه الجنة.
الصدقُ طُمأنينة؛ فعن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: حفظتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "دَعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبك؛ فإن الصدقَ طُمأنينة، والكذبَ رِيبةٌ". أخرجه الترمذي، وهو حديثٌ صحيحٌ.
الصدقُ طُمأنينة، يطمئن به القلبُ، وتطمئنُ به النفسُ، ويطمئنُ به المرءُ في حركة حياته.
وأما الكذبُ فَرِيبةٌ وخَلَقٌ وتَلَدُّدٌ على مِثْلِ الجَمْرِ؛ لأنه يهدي إلى الفجور، ولأن الفجورَ يهدي إلى النار. والعياذُ بالله.
في الصحيحين عن أبي سفيان -رضي الله عنه- في حديثه الطويل في قصة هِرَقْل، قال هِرَقْلُ: فماذا يأمركم؟ يعني النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال أبو سفيان: قلتُ: يقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة".
كان هذا معلومًا من دعوة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وكيف لا يكونُ معلومًا وهو بواقعِ حالهِ ومقالِه -صلى الله عليه وآله وسلم- أمينٌ مأمونٌ، حتى إن ذلك كان من وصفه عند القوم، وإن خالفوه، وإن كفروا بما جاء به إلا أنهم إذا كان عندهم ما يَعِزُّ عليهم فقدُه وما يحرصون على بقائه لا يجدون سوى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يأتمنونه عليه؛ إذ هو الصادقُ الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-. صدقٌ وأمانةٌ في الحال والفِعال، وكذلك في المقال -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم جاء الصادقُ الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- بالأمانة التي حُملها، وكُلف بأدائها؛ فأتى بهذه الرسالة؛ فأداها على أصدق وجهٍ وأحسنه، وأمر -صلى الله عليه وآله وسلم- الناس بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فأمر بالصدق في أول ما أمر -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن الحياة لا تستقيم مع الكذب.
والنبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- كان لا يقبلُ كذبًا أبدًا -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكان إذا كذب واحدًا ممن يكون حوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في شيء أعرضَ عنه رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى يُحدثَ لله توبةً.
قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما روى عنه سهلُ بن حُنيف -رضي الله عنه- وأخرجه مسلمٌ في صحيحه: "مَن سأل اللهَ -تعالى- الشهادةَ بصدقٍ بَلَّغه اللهُ منازل الشهداء وإنْ مات على فراشِه".
فهذه منزلةُ الصدقِ عند الله.
(مَن سألَ اللهَ الشهادةَ بصدق): فَصَدَقَ قلبُه في الطلب، وسألَ اللهَ -رب العالمين- صادقًا أن يرزقه الشهادة، ولم يُقَدِّر الله -رب العالمين- أن يكونَ مجاهدًا بسيفه في سبيل الله؛ فإنه -ولو مات على فراشه- يُبَلِّغه اللهُ -رب العالمين- منازل الشهداء، وهذا من أكرم عطاءٍ يكون، جزاءً وِفاقًا لمَن أتى بالصدق باطنًا؛ فاستقامت به حياتُه؛ لأن الحياةَ لا تستقيمُ إلا على الصدق، ولا تصلحُ الحياةُ مع الكذب؛ فإن الصدقَ طُمأنينة، والكذبَ رِيبة.
والحياةُ إذا بُنيت على الشكِّ، والرِّيَبِ؛ فإنها لا تستقيمُ بحال، وإنما تستقيمُ الحياةُ على الصدق، على الطمأنينة، على الاستقرار. فاللهم اجعلنا من الصادقين.
ولذلك قال العلامةُ ابن بازٍ -رحمه الله تعالى-: "إن الحياةَ في سبيل الله أصعبُ من الموت في سبيله".
(إن الحياةَ في سبيل الله أصعبُ من الموت في سبيل الله): لأن المرءَ إذا جاهد في سبيل الله -جل وعلا- بسيفه، ورُزقَ همةً عاليةً، وأتاه اللهُ -رب العالمين- عزيمةً وثابةً، فما هو إلا أن يجاهدَ في سبيل الله ساعةً حتى يمضيَ إلى ربه حميدًا شهيدًا، وأما أن يحيا في سبيل الله؛ فهذا عناءٌ حقيقي ومجاهدةٌ كبرى.
(إن الحياةَ في سبيل الله): أن تحيا في سبيل الله ليس لنفسكَ من حظٍ، وليس لنفسكَ عندكَ من طعم، لا تذوقُ طعمَ نفسكَ؛ وإنما تحيا لله، وتحيا بالله، وتحيا مع الله، وتحيا لأجل دين الله، هذا من أصعب ما يكون.. "إن الحياةَ في سبيل الله أصعبُ من الموت في سبيل الله".
أخرج الشيخانِ في صحيحيهما عن حَكيم بن حِزامٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "البَيِّعَان -يعني البائعَ والمُشتري- بالخِيار -هو خِيارُ المجلس- ما لم يتفرقا؛ فإن صدقا وبَيَّنا، بُوركَ لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، مُحِقَت بركةُ بيعهما".
لا يتحصَّلُ المرءُ على البركة في الحياة إلا مع الصدق، والكذبُ يمحقُ البركةَ في الحياةِ.
وقد أمرَ اللهُ -جل وعلا- بالإحسان؛ فقال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90].
وقال -سبحانه-: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [النحل:90].
أمرَ اللهُ -رب العالمين- بالإحسان في علاقة المسلم بأسرته ومجتمعه ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء:36].
(وَبِذِي الْقُرْبَى): أي وبذي القربى إحسانًا.
أحسنوا إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء:36].
أمرَ اللهُ -رب العالمين- بالإحسان: إحسانُ المرءِ في أسرته، وإحسانُ المرءِ في مجتمعه.
وجاءَ الأمرُ في القرآنِ بإحسانِ الفِعالِ والمقال، بإحسانِ الأفعالِ وإحسانِ الأقوال ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83].
فكما أمرَ بالإحسان في الأفعال، أمرَ بالإحسان في الأقوال ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة:43]. وقال -جل وعلا-: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء:53].
فأمر اللهُ -رب العالمين- بالإحسان في المقال: بمجانبة الهجر فيه، والفُحش والتفحش فيه، وبالإتيان بما يُرضي اللهَ -رب العالمين- من الأقوال كما يأتي من الأفعال بما يُرضي الله -رب العالمين- وبما يكونُ مقبولاً عند الله -رب العالمين-.
ولا يكونُ ذلكَ كذلكَ إلا إذا توفر فيه الشرطان:
أن يكونَ خالصًا لله.
وأن يكونَ على وَفْقِ ما جاء به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والنبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- كان أبعدَ الناس عن قول ما يَسوء.
وكان أكثرَ الناس اعتراضًا -صلى الله عليه وآله وسلم- على كل كلمةٍ عَوْراء.
وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يُوصي بالرفق، ويُخبرُ أن الله لا يحب الفُحشَ ولا التَّفَحُّش؛ فلما قالت يهودُ ما قالت، وألقت السلامَ ملويًا عند رسول الله، يقولون: السامُ عليكَ يا محمد! -والسامُ: الموت- والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وعليكم".
يُستجابُ له فيهم، ولا يُستجابُ لهم فيه -صلى الله وسلم وبارك عليه-.
قالت عائشةُ -ولم تصبرْ رضوانُ الله عليها-: السامُ عليكم أنتم يا إخوان القردة والخنازير!
وصدقتْ رضوانُ الله عليها، إلا أن النبي راجعها -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "مهلاً يا عائشة! إن اللهَ لا يحبُ الفُحشَ ولا التَّفَحُّش". قالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسولَ الله؟! قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "سمعتُ، وأجبتُ؛ يُستجابُ لي فيهم ولا يُستجابُ لهم في، عليكِ بالرفق؛ فإن الرفقَ ما دخل شيئًا إلا زانه، ولا نُزعَ من شيءٍ إلا شانه".
العُنْفُ ما دخل شيئًا إلا شانه! وإذا أرادَ اللهُ -رب العالمين- بأهل بيتٍ خيرًا، أدخل عليهم الرِّفقَ.
الطريقُ إلى الجنة: الصدقُ والإخلاصُ في الإسلام، والإحسانُ بمتابعة النبي الهُمام -صلى الله عليه وآله وسلم- والتزامِ شريعته.
الطريقُ إلى الجنة: بالصدق في الإسلام، والإحسانِ في متابعة النبي الهُمام؛ فهما أمرانُ: صدقٌ، وإحسان.
فإذا صدقَ المرءُ باطنًا وظاهرًا، وأحسنَ في اعتقاده، وأحسنَ في مقاله، وأحسنَ في فِعاله؛ فهو على الجادة المستقيمة، على الصراط المستقيم، نهايتُه الجنة، في دارِ الخُلدِ والنعيم.
قال ربنا -جل وعلا-: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [البقرة:111].
(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): فصَدقَ في دين الله: صَدقَ في دين الله قلبُه، وصَدقَ في دين الله قولُه، وصَدقَ في دين الله فعلُه.
(وَهُوَ مُحْسِنٌ): يُحسنُ اتباعَ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويتخلقُ بهذا الخُلقِ العظيم وهو خُلق الإحسان الذي كتبه اللهُ -رب العالمين- على كل شيء: "إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيء" أي: كتبَ الإحسانَ في كل شيء، كما أخبرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-. ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:112].
والخلودُ في الجنة، والنظرُ إلى وجه الله الكريم سبيلُه الإحسان ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:26].
(الْحُسْنَى): الجنة. و(الزِيَادَةٌ): النظرُ إلى وجه الله الكريم.
أخرجَ مسلمٌ في "صحيحه" من رواية شَدَّاد بن أَوْس -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيء؛ فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ، وإذا ذَبحتم؛ فأحسنوا الذِّبْحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه وليُرِح أحدُكم ذبيحتَه".
(إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيء): في كل شيء.
(فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ): حتى في القتل، أمرَ اللهُ -رب العالمين- بالإحسان فيه، ونهى عن التعذيب بالنار؛ فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرَ أن النارَ عذابُ الله -جل وعلا- ولا يُعذبُ بالنار إلا الذي خلقها.
(فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ): فلا يقتلُ حَرَقًا، ولا يقتلُ غَرَقًا، وإنما يُحسنُ القِتلةَ، وكذا إذا ذبحَ؛ فليُحسن الذِّبحةَ في هذه العَجماوات التي لا حولَ لها ولا قوة، وجعلها الله -رب العالمين- مُسخرةً ومَتاعًا ولذةً للإنسان؛ فإذا ذبح فإن اللهَ -رب العالمين- هو الذي أذنَ له بذلك وهو الذي شرعَ وأقدره عليه، ومن تمام نعمته: أن يُلتزمَ شرعُه، وأن يُتبعَ نبيه؛ فـ "إذا ذَبحتم؛ فأحسنوا الذِّبْحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه وليُرِح أحدُكم ذبيحتَه".
والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما رأى رجلاً يذبح شاةً وأختها تنظرُ إليها، قال: "أو قد نُزعت الرحمةُ من قلبك!".
تذبحها أمام أختها! "أو قد نُزعت الرحمةُ من قلبك!".
فمن الإحسان في هذا أن يكونَ كما أمرَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
"إن اللهَ كتبَ الإحسانَ في كل شيء": أي كتبَ الإحسانَ على كل شيء.
"فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ، وإذا ذَبحتم؛ فأحسنوا الذِّبْحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه وليُرِح أحدُكم ذبيحتَه".
وفي المقابل، يقول ربنا -جل وعلا- في الحديث القدسي : "يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تَظَّالموا".
إذا كان اللهُ -جل وعلا- قد حرَّمه على نفسه، أفيستبيحه عبدٌ لنفسه؟!
"إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تَظَّالموا".
أخرجَ الشيخان في صحيحيهما عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "مَن قتلَ مُعَاهَدًا لم يَرَح رائحةَ الجنة، وإن ريحَها ليوجدُ من مسيرة أربعين عامًا".
ليس من الإحسان أن يُقتلَ المُعَاهَدَ، بل هذا ظلمٌ وإساءة وتَعَدٍّ لحدود الله -جل وعلا-؛ فكانت العاقبة ألا يجدَ ريحَ الجنة، وإن ريحَها ليوجدُ من مسيرة أربعين عامًا.
وفي "صحيح الترغيب والترهيب" من رواية ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "مَن قتلَ عُصفورًا بغير حق، سأله اللهُ عنه يومَ القيامة".
" مَن قتلَ عُصفورًا بغير حق، سأله اللهُ عنه يومَ القيامة"لمَ قتلته؟! إذا كان قد قتلته بغير حق.
وقد أخبرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أن نبيًا نزلَ تحت شجرة؛ فقرصته نملةً؛ فأمرَ بمتاعه، فَحُملَ، ثم أمرَ بقرية النمل؛ فأُحرقت، فأوحى اللهُ إليه: فهلا نملةً واحدةً!".
يعني التي قرصتكَ: فهلا نملةً واحدةً، فراجعه اللهُ -رب العالمين- في ذلك.
(إن اللهَ كتبَ الإحسان في كل شيء): كتبَ الإحسانَ على كل شيء؛ فعلى المرءِ أن يجتهدَ في إحسان اعتقاده، وفي إحسان مقاله، وفي إحسان فعاله، وأن يكونَ مُحسنًا.
والإحسانُ: "أن تعبدَ الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراكَ"، كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وفي الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عُذِّبت امرأةٌ في هِرَّةٍ، حبستها حتى ماتت جوعًا؛ فدخلت فيها النارَ، فلا هي أطعمتها ولا سقتها حين حبستها ولا تركتها تأكلُ من خَشاش الأرض".
أساءت؛ فعُذِّبت، في هِرَّةٍ دخلتِ النارَ! كما قال النبي المختار -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إن الله -جل وعلا- جعلَ الصدقَ والإحسانَ سبيلين ممهودين لتحصيل الرضوان، لا يُحصَّلُ الرضوانُ إلا بهما.
ولهما باطنٌ وظاهرٌ: بصدقِ القلبِ وصدقِ الفِعال والجوارحِ واللسان، وبإحسانِ القلبِ في معتقده: بالبراءةِ من الشرك والبدعة، وبإحسان اللسان في مَنْطِقِه: بالبعد عن الفُحشِ والتفحشِ والكذبِ والغِيبةِ والنميمةِ إلى غيرِ ذلك من آفاته، وبإحسان الجوارحِ: بإتيان العبادةِ على النحو الذي جاء به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أسألُ اللهَ -جلت قدرته وتقدست أسماؤه- أن يجعلنا من الصادقين المحسنين -أجمعين-، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخُطبةُ الثانيةُ:
الحمد لله -رب العالمين-، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أمّا بعدُ:
فإن إخلاصَ الدين لله -عز وجل-، وتجريد المتابعةَ لرسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هما حقيقةُ دين الإسلام: أشهدُ ألا إلهَ إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
لابد من إخلاص الدين لله: بصدق القلبِ مع الله، وإحسانِ القلب في معتقده.
لابد من إخلاص الدين لله، ولابد من تجريد المتابعة لرسولِ الله: بالاستقامة على الإحسان في الحياة؛ فإن المرءَ لا يستقيمُ على الإحسان في الحياة مقالاً وفِعالاً حتى يلزمَ نهجَ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما خرج بأصحابه إلى حُنين، وكان معه مَن كان حديثَ عهدٍ بكفر ممن أسلمَ قريبًا ومروا بِسِدْرَةٍ عظيمة، كما قال أبو واقدٍ الليثي -رضي الله تبارك وتعالى عنه- في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره وهو حديثٌ صحيحٌ، قالوا: يا رسولَ الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذاتُ أنواط! فقال: "الله أكبر! قلتم -والذي نفسي بيده- كما قال بنو إسرائيلَ لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة".
فمع صدق المعتقد، وإحسان المتابعة، وقعت مخالفة لحداثة عهد بكفر، وكانوا سائرين غازين في سبيل رب العالمين، سائرين لملاقاة العدو، لا يدري إلا اللهُ وحده، ولا يعلمُ سواه مَن يعودُ؟ ممن يُستشهد؟ ومَن يُسلَّمُ؟ ممن يُجرحُ؟!
ومع ذلك لم يُعفهم رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من المتابعة والمؤاخذة والتصحيح، وجعل هذا الأمر بتلك المثابة؛ فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهُ أكبر!"، وفي رواية: "سبحانَ الله!"، يتعجبُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- "قلتم -والذي نفسي بيده- كما قال بنو إسرائيلَ لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة".
فجعلَ الشَّبَه معقودًا بين هذه المقالة: "اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواط" مع مقالة بني إسرائيلَ لموسى -عليه السلام-: "اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة".
فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يبيَّنُ لهم عِظَمَ ما لفظوا به، وما قالوه من هذا الأمر الكبير من أجل تصحيح المعتقد؛ إذ هم سائرون إلى ملاقاة العدو، والنصرُ لا يكون إلا مع صحة المعتقد، وتمام المتابعة للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وقد تبدَّى نحوٌ من ذلك بعد، والصحابةُ هم الصحابةُ -رضوان الله عليهم- في ثباتهم ويقينهم وإيمانهم ومتابعتهم لرسولهم -صلى الله عليه وآله وسلم- لما نظروا إلى جمعهم أعجبتهم كثرتهم؛ فدخلَ شيءٌ من الإعجاب والعُجبِ بعضَ القلوب.
والعُجبُ إذا شابَ القلبَ أثَّرَ بعد تأثيرٍ على سلامة المعتقد، قال ربنا -جل وعلا-: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25].
فمع سلامة المعتقد، وصدق المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالالتزام بالسنة، ظهرَ شيءٌ من العُجبِ، فقال قائلهم: لن نُهزمَ اليومَ من قلة! فحُرموا النصرَ أولاً.
فكيفَ بالذين على معتقدٍ باطلٍ؟! يُشركونَ بالله -جل وعلا- غيرَه، ويعبدونَ سواه، ويتوجهونَ بكثيرٍ من العبادات القلبية والقولية وعبادات الجوارح لغير الله -عز وجل- فأنى لهم النصرُ؟! ثم أنى لهم النصرُ؟! ثم أنى لهم النصر؟!
مع صحةِ المعتقد، وتمامِ الالتزام بالسنة من أصحاب رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لما ظهرَ شيءٌ من العُجب وقال قائلُهم: لن نُهزمَ اليومَ من قلة! حرمهم اللهُ النصرَ أولاً ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25].
وهم أصحابُ النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-!
وفي "أُحُد" قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للرماة: "إن رأيتمونا تخطَّفنا الطيرُ؛ فلا تبرحوا من مكانكم".
قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: لا تبرحوا. "إن رأيتمونا ظهرنا عليهم؛ فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا؛ فلا تُعينونا".
فتركوا أماكنهم وخالفوا رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع صدق المعتقد وتمام المتابعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما وقعت مخالفة؛ فتركوا أماكنهم التي أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يبرحوها: أمرهم أن يلزموها، وألا يُفارقوها؛ فلما خالفوا في هذا وقعت الكثرة، وقُتلَ منهم سبعون، ووقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما وقع! وصاح الشيطانُ قُتلَ محمدٌ!! -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان أمرًا عصيبًا وخَطْبًا جسيمًا حتى تداركهم اللهُ -رب العالمين- برحمته وتاب عليهم -رضوان الله عليهم أجمعين- ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:165].
قل هو من عند أنفسكم!
وإذا كان المقاتلون على معتقدٍ صحيحٍ، وصدقٍ في الالتزام بالسنة ثم خالفوا الرسولَ -صلى الله عليه وآله وسلم- حُرموا النصرَ! فكيف إذا كانوا مفارقين للسنة من أصلهم؟!! منتسبين إلى طائفةً مبتدعةٍ من نشأتهم!! فكيف ينصرون؟!!
وهؤلاء أصحابُ النبي -صلى الله عليه وسلم- مع صحةِ المعتقد وتمام المتابعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما خالفوه في أمر، حُرموا النصرَ!!
فكيف بالذين لا يصدقون في معتقدهم؟!! بل يشركون بربهم!! وكيف بالذين تربوا في أحضان المبتدعة على المناهج المبتدعة مخالفين أمرَ رسولِ الله؟!! أنى يُنصرون؟!!
لا يكونُ النصرُ إلا مع صحة الاعتقاد، والتزامِ سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ينبغي أن تُعلَّمَ الأمةُ هذا: من دروس القرآن العظيم مما وقعَ في حُنين، ومما وقعَ في أُحُد لأصحاب النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
لم يقبلِ اللهُ -رب العالمين- أن تعجبهم كثرتهم؛ لأن النصرَ من عند الله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران:123].
نصرهم اللهُ -رب العالمين- مع قلة العَتاد، ومع قلة العدد، ومع وفرتهما مع الكفار والمشركين، أنزلَ اللهُ نصرَه، وأعظمَ على المشركين بأسَه، وكان نصرًا عزيزًا مُؤَزَّرًا.
صحَّ الاعتقادُ ولم يَشُبْهُ شيءٌ، وصحت المتابعةُ فلم يَشُبْها شيءٌ؛ فجاءَ النصرُ من عند الله -جل وعلا.
واللهُ -رب العالمين- يُربي المسلمين على هذين الأمرين العظيمين.
إياكم أن يداخلكم في قلوبكم عُجبٍ! بكثرتكم، بوفرتكم، بحركتكم؛ فهذا كله لا يُغني عنكم شيئًا، وستولون مدبرين، وإياكم أن تخالفوا أمرَ النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إخلاصُ الدين لله -تعالى- وتجريد المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-...
الصدقُ باطنًا وظاهرًا، والإحسانُ ظاهرًا وباطنًا...
الالتزامُ بأمر الله وبأمر رسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-...
خلاصُ الأمةِ فيهما، مخالفتهما لا تؤدي إلى خير.
وما زال الناسُ مشغولين، ينظِّرون ويقعِّدون، وكأنَّ هذه الأمور لم تُقتلْ بحثًا على مر الدهور والعصور، وكأنَّ سلفَنا من أئمتنا الصالحين لم يُحرروها ولم يُدققوا النظرَ فيها!!
ما زال إلى اليوم مَن يتكلمُ في تكفير الحاكم للخروج عليه!! وفي الخروج سِلمًا وحَربًا!! والأمةُ في فوضى!!!
لا يلتفتون!!
لا يحذِّرون من الدماء!!
لا يحذِّرون من انتهاك الأعراض!!
لا يحذِّرون من استلابِ الأموال!!
لا يحذِّرون من الاعتداء على الممتلكات!!
لا يعلِّمون الناسَ الصدقَ والإحسانَ!! بتوحيد الله، ومتابعةِ رسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
القومُ -يا صاحبي- سادِرون فيما هم فيه: يُنظِّرون ويُقعِّدون ويريدون الوصولَ إلى ما عند الله بمعصية الله! وما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعته.
وما حدثَ قطُّ أن نِيلَ ما عند الله بمعصيته، "ما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعته".
تعليمُ الأمة ما جاء به نبيُّ الأمة -صلى الله عليه وآله وسلم- من التوحيد والمتابعة، سرُّ الخلاص، سرُّ النجاة، سرُّ القيام بأمر الله.
توحيدُ الله ومتابعة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ضيِّقوا النظرَ، قصيروه كأنهم لا يعلمون ما يجري في ربوع الكِنانة: من اعتداءاتٍ، واغتصابٍ، وإراقةٍ للدماء، وترويعٍ للأبرياء، وسلبٍ للثروات، وقطعٍ للطرق، وتخريبٍ للمنشئات!!
كلُّ مَن تسببَ في هذا بطريق مباشر أو غير مباشر؛ فعليه كِفلٌ من وزره وإثمه.
والذين أخرجوا الناسَ، ولم يخرج الناسُ في جملتهم من العوام الذين لا يُحسنون النظرَ في مآلات الأمور، لم يخرجوا؛ لأنهم يتبعون الماسونيين أو يلجئون إلى مخططات الصهيونيين، لا، وإنما حُرِّكوا؛ فتحركوا!!
فإثمُ حركتكم على مَن حرَّكهم، على مَن أخرجهم حتى وقعت الفوضى في الديار!!
ثم يقولُ قائلُهم اليومَ: لم نأمر الناسَ ولم نطلب منهم النزولَ حتى لا تحدث الفوضى!
وقد حدثت يا صاح! وكنتَ من أعظم مُحركيها ومسببيها؛ فاتقَ اللهَ في قولك، وَأْمُرِ الناسَ أن يلزموا الجادةَ المستقيمة، جادةَ الإسلام العظيم بإخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الدعوةُ إلى الله -جل وعلا- أساليبُها توقيفية؛ فما لم يكن يومئذٍ دينًا؛ فلن يكونَ اليومَ دينًا! ولن يكونَ يومًا من الأيام دينًا.
والأمةُ في هذه المرحلة الدقيقة من مسيرتها وحياتها لا تتحملُ التجريبَ، لا تتحملُ التجاربَ الفاشلةَ التي يُدخلُ القومُ الأمةَ فيها باسم الدين من أجل إراقة الدماء وإشعال النيران في جنبات الوطن المسلم؛ كي يضيع كما ضاقت أوطان؛ لكي يُمزق كما مُزقت بُلدان؛ لكي يُشتتَ أهلُه ويُشردَ قاطنوه من أجل أن يُساموا الخسفَ والذلَ والفقرَ والهوانَ.
من أجل ألا يُرفع بين ظهرانيهم أذان، كلُّ هذا بما كان.. إنما كان بمخالفة منهج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ودعوكم من أولئك المنظرين؛ فإنهم لا يُحسنون الدين فضلاً عن الحياة.
والله يتولاكم ويرعاكم، ويُسدد على طريق الحق خُطاكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وفرَّغه/
أبو عبدالرحمن حمدي آل زيد المصريّ
5 من ذي القعدة 1432هـ، الموافق 3/10/2011م.
[القراءة المباشرة]
إن الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادِي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70].
أمّا بعدُ؛ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أمّا بعدُ:
فإن الله -تعالى- أمر بالصدق، وحثَّ عليه، ونهى عن الكذب، وحذَّر منه، والصدقُ من صفات المؤمنين، وعكسُه -وهو الكذبُ- من سِمات المنافقين.
قال -تعالى-: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب:24].
وقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119].
وهذه الآيةُ الكريمة نزلت بعد قصة الثلاثة الذين خُلفوا عن غزوة "تَبُوك".
وكان هؤلاء الثلاثةُ قد تخلفوا عن الغزوة بلا عذر؛ فلما رجع الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- صدقوه؛ فأخبروه أنهم تخلفوا بلا عذرٍ؛ فخلَّفهم -أي تركهم-، قال -تعالى-: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة:118]. أي تُركوا؛ فلم يُبَتَّ في شأنهم، ولم يُحسم في أمرهم؛ لأن المنافقين لما قدم الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- من غزوة "تَبُوك" جاءوا إليه يعتذرون حالفين بالله -رب العالمين- إنهم لمعذورون، وفيهم أنزل اللهُ -جل وعلا-: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:95-96].
أما هؤلاء الثلاثة -وقد صدقوا الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وأخبروه أنهم ليس لهم عذر- فأرجأهم الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- خمسين ليلة حتى ﴿ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ [التوبة:118].
ثم أنزل الله توبته عليهم، ثم قال ربنا -جل وعلا- بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119]. فأمر اللهُ -رب العالمين- أن يتقوا الله، وأن يكونوا مع الصادقين، لا مع الكاذبين.
والصدقُ: مطابقةُ الخبر للواقع. هذا في الأصل، ويكون في الأخبار؛ فإذا أخبرتَ بشيءٍ، وكان خبرُكَ مطابقًا للواقع، قِيلَ: إنه صدق، وإلا فكذب. فإذا أخبرتَ عن هذا اليومِ -مثلاً-: اليومُ يومُ الجمعة؛ فهذا خبرٌ صدق، وإذا قلتَ: اليومَ يومُ الاثنين؛ فهذا خبرٌ كذب.
فالخبرُ إن وافق الواقع؛ فصدق، وإلا فكذب.
وكما يكون الصدقُ في الأقوال؛ فهو في الأفعال، وهو أن يكون باطنُ الإنسان موافقًا لظاهره بحيث إذا عمل عملاً يكون عملُه موافقًا لما في قلبه.
فالمرائي -مثلاً- ليس بصادق؛ لأنه يُظهر للناس أنه من العابدين وليس كذلك.
والمشركُ بالله ليس بصادق؛ لأنه يُظهر أنه موحدٌ وليس كذلك.
والمنافق ليس بصادق؛ لأنه يُظهر الإيمانَ وليس بمؤمن.
والمبتدع ليس بصادق؛ لأنه يُظهر الاتباع للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وليس بمتبع.
لقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه بالتجهز لغزوة "تَبُوك"، وهي غزوة "العُسْرَة" في أشدِّ ما يكون الناسُ في الحرِّ، وأطيبِ ما يكون الناسُ لو بقوا في ديارهم؛ فالوقتُ وقتُ قَيْظٍ يشوي الجلود، والوقتُ وقتُ طيب الثمار وحُسْن الظلال.
فتخلف المنافقون، وتخلف ثلاثةٌ من المؤمنين الصادقين، وهم: كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، تخلفوا؛ فَخُلفوا أي خلف الرسولُ -صلى الله عليه وآله وسلم- البَتَّ في أمرهم؛ حتى ينظرَ ما يكون حُكم الله -تعالى- فيهم.
خُلِّفوا خمسين ليلة ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:118]. ثم قال -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119].
في الصحيحين من رواية عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنَّ الصدق يهدي إلى البِر، وإنَّ البر يهدي إلى الجنة، وإنَّ الرجلَ ليصدق حتى يُكتب عند الله صِديقًا، وإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، وإنَّ الرجلَ ليكذبُ حتى يُكتب عند الله كذابًا".
عليكم بالصدق. أي: الزموا الصدقَ، ولا تفارقوه.
والصدق: مطابقة الخبر للواقع، والخبر يكون باللسان، ويكون بالأركان؛ فأما اللسان: فهو القول. وأما الأركان: فهو الفعل؛ فقد يكون الكذب بالفعل: إذا فعل الإنسانُ خلافَ ما يُبطن؛ فهذا كذب بفعله.
فالصدق، صدق الباطن، صدق الظاهر، مواطئًا لصدق الباطن.
والكذب كما يكون بالمقال، يكون بالفِعال؛ فإذا أظهر الإنسانُ ما ليس بمُضمرٍ له؛ فهو كاذب.
وإذا لم يواطِئ العملُ ما في القلبِ؛ فهذا كذب؛ لأن الصدقَ مطابقة الخبر والفعل للواقع، فمتى طابق الخبرُ الواقعَ؛ فهو صدق -هذا باللسان-، ومتى طابقت أعمالُ الجوارحِ ما في القلب؛ فهذا صدقٌ بالأفعال.
(وإنَّ الصدق يهدي إلى البِر): والبرُّ: كلمةٌ جامعةٌ لكل خير، ومن أسماء الله -جل وعلا- البَرُّ؛ أي كثير الخير والإحسان -عز وجل-.
وصاحبُ البر يهديه بِرُّه إلى الجنة، والجنةُ غايةُ كلِّ طالبٍ.
(وإنَّ الرجلَ ليصدق حتى يُكتب عند الله صِديقًا)، وفي رواية: (وما يزال الرجل يصدقُ ويتحرى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صديقًا): والصِّديق في المرتبة الثانية من الخلق الذين أنعم اللهُ عليهم، كما قال -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
الصديقيةُ تكون في الرجال، وتكون في النساء، قال -جل وعلا-: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة:75].
وأفضلُ الصديقين على الإطلاق أصدقُهم، وهو أبو بكرٍ -رضوان الله عليه-.
وإياكم والكذب (فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور): إذا كذب الرجل أخذ كذبُه بقلبِه إلى الفجور، وما يزال يتحرى الكذبَ؛ حتى يُكتب عند الله كذابًا.
والفجور: الخروج من طاعة الله -عز وجل-؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى طورَه، ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته.
وأعظم الفجور: الكفر؛ فإن الكفرةَ فجرةٌ كما قال الله -جل وعلا-: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس:42].
عرَّفهم الله -تبارك وتعالى- بذلكَ وأتى بالضمير، والجملةِ المُعرَّفة الطرفين يدل على انحصار الفجور فيهم، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ وقال -جل وعلا-: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار:14].
(وإن الرجل ليكذبُ -وفي رواية: ويتحرى الكذبَ- حتى يُكتبَ عند الله كذابًا): ومن أعظم الكذب ما يفعله الناسُ اليومَ من الإتيان بالمقالات الكاذبة من أجل أن يُضحك الناسَ.
في حديث معاوية بن حَيدة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ويلٌ! لمَن حدَّثَ فكذبَ؛ ليُضحكَ به القومَ، ويلٌ له! ثم ويلٌ له!". أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، بإسنادٍ حسن.
ومن أشد الكذب: اليمينُ الغَموس التي تغمسُ صاحبَها في الإثم ثم تغمسُ صاحبَها في النار؛ ففي الصحيحين عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَن حلف على يمينِ صبرٍ هو فيها فاجرٌ يقتطعُ بها مالَ امرئٍ مسلم، لَقِي اللهَ وهو عليه غضبان".
وعند مسلم من رواية أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مَن اقتطع -أي أخذ- حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه؛ فقد أوجب الله له النارَ وحرَّم عليه الجنة"، فقال رجلٌ: وإنْ كان شيئًا يسيرًا يا رسولَ الله! فقال: "وإنْ قَضيبًا من أراك".
إذا (اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ): أي أخذه بيمينٍ غَموسٍ فاجرة؛ فأخذ ما ليس له بحق ولو كان شيئًا يسيرًا، ولو كان قضيبًا من أرك، كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أوجب اللهُ له النارَ، وحرَّم عليه الجنة.
الصدقُ طُمأنينة؛ فعن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: حفظتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "دَعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبك؛ فإن الصدقَ طُمأنينة، والكذبَ رِيبةٌ". أخرجه الترمذي، وهو حديثٌ صحيحٌ.
الصدقُ طُمأنينة، يطمئن به القلبُ، وتطمئنُ به النفسُ، ويطمئنُ به المرءُ في حركة حياته.
وأما الكذبُ فَرِيبةٌ وخَلَقٌ وتَلَدُّدٌ على مِثْلِ الجَمْرِ؛ لأنه يهدي إلى الفجور، ولأن الفجورَ يهدي إلى النار. والعياذُ بالله.
في الصحيحين عن أبي سفيان -رضي الله عنه- في حديثه الطويل في قصة هِرَقْل، قال هِرَقْلُ: فماذا يأمركم؟ يعني النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال أبو سفيان: قلتُ: يقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة".
كان هذا معلومًا من دعوة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وكيف لا يكونُ معلومًا وهو بواقعِ حالهِ ومقالِه -صلى الله عليه وآله وسلم- أمينٌ مأمونٌ، حتى إن ذلك كان من وصفه عند القوم، وإن خالفوه، وإن كفروا بما جاء به إلا أنهم إذا كان عندهم ما يَعِزُّ عليهم فقدُه وما يحرصون على بقائه لا يجدون سوى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يأتمنونه عليه؛ إذ هو الصادقُ الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-. صدقٌ وأمانةٌ في الحال والفِعال، وكذلك في المقال -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم جاء الصادقُ الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- بالأمانة التي حُملها، وكُلف بأدائها؛ فأتى بهذه الرسالة؛ فأداها على أصدق وجهٍ وأحسنه، وأمر -صلى الله عليه وآله وسلم- الناس بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فأمر بالصدق في أول ما أمر -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن الحياة لا تستقيم مع الكذب.
والنبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- كان لا يقبلُ كذبًا أبدًا -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكان إذا كذب واحدًا ممن يكون حوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في شيء أعرضَ عنه رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى يُحدثَ لله توبةً.
قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما روى عنه سهلُ بن حُنيف -رضي الله عنه- وأخرجه مسلمٌ في صحيحه: "مَن سأل اللهَ -تعالى- الشهادةَ بصدقٍ بَلَّغه اللهُ منازل الشهداء وإنْ مات على فراشِه".
فهذه منزلةُ الصدقِ عند الله.
(مَن سألَ اللهَ الشهادةَ بصدق): فَصَدَقَ قلبُه في الطلب، وسألَ اللهَ -رب العالمين- صادقًا أن يرزقه الشهادة، ولم يُقَدِّر الله -رب العالمين- أن يكونَ مجاهدًا بسيفه في سبيل الله؛ فإنه -ولو مات على فراشه- يُبَلِّغه اللهُ -رب العالمين- منازل الشهداء، وهذا من أكرم عطاءٍ يكون، جزاءً وِفاقًا لمَن أتى بالصدق باطنًا؛ فاستقامت به حياتُه؛ لأن الحياةَ لا تستقيمُ إلا على الصدق، ولا تصلحُ الحياةُ مع الكذب؛ فإن الصدقَ طُمأنينة، والكذبَ رِيبة.
والحياةُ إذا بُنيت على الشكِّ، والرِّيَبِ؛ فإنها لا تستقيمُ بحال، وإنما تستقيمُ الحياةُ على الصدق، على الطمأنينة، على الاستقرار. فاللهم اجعلنا من الصادقين.
ولذلك قال العلامةُ ابن بازٍ -رحمه الله تعالى-: "إن الحياةَ في سبيل الله أصعبُ من الموت في سبيله".
(إن الحياةَ في سبيل الله أصعبُ من الموت في سبيل الله): لأن المرءَ إذا جاهد في سبيل الله -جل وعلا- بسيفه، ورُزقَ همةً عاليةً، وأتاه اللهُ -رب العالمين- عزيمةً وثابةً، فما هو إلا أن يجاهدَ في سبيل الله ساعةً حتى يمضيَ إلى ربه حميدًا شهيدًا، وأما أن يحيا في سبيل الله؛ فهذا عناءٌ حقيقي ومجاهدةٌ كبرى.
(إن الحياةَ في سبيل الله): أن تحيا في سبيل الله ليس لنفسكَ من حظٍ، وليس لنفسكَ عندكَ من طعم، لا تذوقُ طعمَ نفسكَ؛ وإنما تحيا لله، وتحيا بالله، وتحيا مع الله، وتحيا لأجل دين الله، هذا من أصعب ما يكون.. "إن الحياةَ في سبيل الله أصعبُ من الموت في سبيل الله".
أخرج الشيخانِ في صحيحيهما عن حَكيم بن حِزامٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "البَيِّعَان -يعني البائعَ والمُشتري- بالخِيار -هو خِيارُ المجلس- ما لم يتفرقا؛ فإن صدقا وبَيَّنا، بُوركَ لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، مُحِقَت بركةُ بيعهما".
لا يتحصَّلُ المرءُ على البركة في الحياة إلا مع الصدق، والكذبُ يمحقُ البركةَ في الحياةِ.
وقد أمرَ اللهُ -جل وعلا- بالإحسان؛ فقال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90].
وقال -سبحانه-: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [النحل:90].
أمرَ اللهُ -رب العالمين- بالإحسان في علاقة المسلم بأسرته ومجتمعه ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ [النساء:36].
(وَبِذِي الْقُرْبَى): أي وبذي القربى إحسانًا.
أحسنوا إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء:36].
أمرَ اللهُ -رب العالمين- بالإحسان: إحسانُ المرءِ في أسرته، وإحسانُ المرءِ في مجتمعه.
وجاءَ الأمرُ في القرآنِ بإحسانِ الفِعالِ والمقال، بإحسانِ الأفعالِ وإحسانِ الأقوال ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83].
فكما أمرَ بالإحسان في الأفعال، أمرَ بالإحسان في الأقوال ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة:43]. وقال -جل وعلا-: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء:53].
فأمر اللهُ -رب العالمين- بالإحسان في المقال: بمجانبة الهجر فيه، والفُحش والتفحش فيه، وبالإتيان بما يُرضي اللهَ -رب العالمين- من الأقوال كما يأتي من الأفعال بما يُرضي الله -رب العالمين- وبما يكونُ مقبولاً عند الله -رب العالمين-.
ولا يكونُ ذلكَ كذلكَ إلا إذا توفر فيه الشرطان:
أن يكونَ خالصًا لله.
وأن يكونَ على وَفْقِ ما جاء به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والنبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- كان أبعدَ الناس عن قول ما يَسوء.
وكان أكثرَ الناس اعتراضًا -صلى الله عليه وآله وسلم- على كل كلمةٍ عَوْراء.
وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يُوصي بالرفق، ويُخبرُ أن الله لا يحب الفُحشَ ولا التَّفَحُّش؛ فلما قالت يهودُ ما قالت، وألقت السلامَ ملويًا عند رسول الله، يقولون: السامُ عليكَ يا محمد! -والسامُ: الموت- والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وعليكم".
يُستجابُ له فيهم، ولا يُستجابُ لهم فيه -صلى الله وسلم وبارك عليه-.
قالت عائشةُ -ولم تصبرْ رضوانُ الله عليها-: السامُ عليكم أنتم يا إخوان القردة والخنازير!
وصدقتْ رضوانُ الله عليها، إلا أن النبي راجعها -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "مهلاً يا عائشة! إن اللهَ لا يحبُ الفُحشَ ولا التَّفَحُّش". قالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسولَ الله؟! قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "سمعتُ، وأجبتُ؛ يُستجابُ لي فيهم ولا يُستجابُ لهم في، عليكِ بالرفق؛ فإن الرفقَ ما دخل شيئًا إلا زانه، ولا نُزعَ من شيءٍ إلا شانه".
العُنْفُ ما دخل شيئًا إلا شانه! وإذا أرادَ اللهُ -رب العالمين- بأهل بيتٍ خيرًا، أدخل عليهم الرِّفقَ.
الطريقُ إلى الجنة: الصدقُ والإخلاصُ في الإسلام، والإحسانُ بمتابعة النبي الهُمام -صلى الله عليه وآله وسلم- والتزامِ شريعته.
الطريقُ إلى الجنة: بالصدق في الإسلام، والإحسانِ في متابعة النبي الهُمام؛ فهما أمرانُ: صدقٌ، وإحسان.
فإذا صدقَ المرءُ باطنًا وظاهرًا، وأحسنَ في اعتقاده، وأحسنَ في مقاله، وأحسنَ في فِعاله؛ فهو على الجادة المستقيمة، على الصراط المستقيم، نهايتُه الجنة، في دارِ الخُلدِ والنعيم.
قال ربنا -جل وعلا-: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [البقرة:111].
(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): فصَدقَ في دين الله: صَدقَ في دين الله قلبُه، وصَدقَ في دين الله قولُه، وصَدقَ في دين الله فعلُه.
(وَهُوَ مُحْسِنٌ): يُحسنُ اتباعَ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويتخلقُ بهذا الخُلقِ العظيم وهو خُلق الإحسان الذي كتبه اللهُ -رب العالمين- على كل شيء: "إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيء" أي: كتبَ الإحسانَ في كل شيء، كما أخبرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-. ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:112].
والخلودُ في الجنة، والنظرُ إلى وجه الله الكريم سبيلُه الإحسان ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:26].
(الْحُسْنَى): الجنة. و(الزِيَادَةٌ): النظرُ إلى وجه الله الكريم.
أخرجَ مسلمٌ في "صحيحه" من رواية شَدَّاد بن أَوْس -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيء؛ فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ، وإذا ذَبحتم؛ فأحسنوا الذِّبْحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه وليُرِح أحدُكم ذبيحتَه".
(إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيء): في كل شيء.
(فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ): حتى في القتل، أمرَ اللهُ -رب العالمين- بالإحسان فيه، ونهى عن التعذيب بالنار؛ فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرَ أن النارَ عذابُ الله -جل وعلا- ولا يُعذبُ بالنار إلا الذي خلقها.
(فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ): فلا يقتلُ حَرَقًا، ولا يقتلُ غَرَقًا، وإنما يُحسنُ القِتلةَ، وكذا إذا ذبحَ؛ فليُحسن الذِّبحةَ في هذه العَجماوات التي لا حولَ لها ولا قوة، وجعلها الله -رب العالمين- مُسخرةً ومَتاعًا ولذةً للإنسان؛ فإذا ذبح فإن اللهَ -رب العالمين- هو الذي أذنَ له بذلك وهو الذي شرعَ وأقدره عليه، ومن تمام نعمته: أن يُلتزمَ شرعُه، وأن يُتبعَ نبيه؛ فـ "إذا ذَبحتم؛ فأحسنوا الذِّبْحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه وليُرِح أحدُكم ذبيحتَه".
والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما رأى رجلاً يذبح شاةً وأختها تنظرُ إليها، قال: "أو قد نُزعت الرحمةُ من قلبك!".
تذبحها أمام أختها! "أو قد نُزعت الرحمةُ من قلبك!".
فمن الإحسان في هذا أن يكونَ كما أمرَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
"إن اللهَ كتبَ الإحسانَ في كل شيء": أي كتبَ الإحسانَ على كل شيء.
"فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القِتلةَ، وإذا ذَبحتم؛ فأحسنوا الذِّبْحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه وليُرِح أحدُكم ذبيحتَه".
وفي المقابل، يقول ربنا -جل وعلا- في الحديث القدسي : "يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تَظَّالموا".
إذا كان اللهُ -جل وعلا- قد حرَّمه على نفسه، أفيستبيحه عبدٌ لنفسه؟!
"إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تَظَّالموا".
أخرجَ الشيخان في صحيحيهما عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "مَن قتلَ مُعَاهَدًا لم يَرَح رائحةَ الجنة، وإن ريحَها ليوجدُ من مسيرة أربعين عامًا".
ليس من الإحسان أن يُقتلَ المُعَاهَدَ، بل هذا ظلمٌ وإساءة وتَعَدٍّ لحدود الله -جل وعلا-؛ فكانت العاقبة ألا يجدَ ريحَ الجنة، وإن ريحَها ليوجدُ من مسيرة أربعين عامًا.
وفي "صحيح الترغيب والترهيب" من رواية ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "مَن قتلَ عُصفورًا بغير حق، سأله اللهُ عنه يومَ القيامة".
" مَن قتلَ عُصفورًا بغير حق، سأله اللهُ عنه يومَ القيامة"لمَ قتلته؟! إذا كان قد قتلته بغير حق.
وقد أخبرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أن نبيًا نزلَ تحت شجرة؛ فقرصته نملةً؛ فأمرَ بمتاعه، فَحُملَ، ثم أمرَ بقرية النمل؛ فأُحرقت، فأوحى اللهُ إليه: فهلا نملةً واحدةً!".
يعني التي قرصتكَ: فهلا نملةً واحدةً، فراجعه اللهُ -رب العالمين- في ذلك.
(إن اللهَ كتبَ الإحسان في كل شيء): كتبَ الإحسانَ على كل شيء؛ فعلى المرءِ أن يجتهدَ في إحسان اعتقاده، وفي إحسان مقاله، وفي إحسان فعاله، وأن يكونَ مُحسنًا.
والإحسانُ: "أن تعبدَ الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراكَ"، كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وفي الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عُذِّبت امرأةٌ في هِرَّةٍ، حبستها حتى ماتت جوعًا؛ فدخلت فيها النارَ، فلا هي أطعمتها ولا سقتها حين حبستها ولا تركتها تأكلُ من خَشاش الأرض".
أساءت؛ فعُذِّبت، في هِرَّةٍ دخلتِ النارَ! كما قال النبي المختار -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إن الله -جل وعلا- جعلَ الصدقَ والإحسانَ سبيلين ممهودين لتحصيل الرضوان، لا يُحصَّلُ الرضوانُ إلا بهما.
ولهما باطنٌ وظاهرٌ: بصدقِ القلبِ وصدقِ الفِعال والجوارحِ واللسان، وبإحسانِ القلبِ في معتقده: بالبراءةِ من الشرك والبدعة، وبإحسان اللسان في مَنْطِقِه: بالبعد عن الفُحشِ والتفحشِ والكذبِ والغِيبةِ والنميمةِ إلى غيرِ ذلك من آفاته، وبإحسان الجوارحِ: بإتيان العبادةِ على النحو الذي جاء به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أسألُ اللهَ -جلت قدرته وتقدست أسماؤه- أن يجعلنا من الصادقين المحسنين -أجمعين-، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخُطبةُ الثانيةُ:
الحمد لله -رب العالمين-، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أمّا بعدُ:
فإن إخلاصَ الدين لله -عز وجل-، وتجريد المتابعةَ لرسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هما حقيقةُ دين الإسلام: أشهدُ ألا إلهَ إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
لابد من إخلاص الدين لله: بصدق القلبِ مع الله، وإحسانِ القلب في معتقده.
لابد من إخلاص الدين لله، ولابد من تجريد المتابعة لرسولِ الله: بالاستقامة على الإحسان في الحياة؛ فإن المرءَ لا يستقيمُ على الإحسان في الحياة مقالاً وفِعالاً حتى يلزمَ نهجَ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما خرج بأصحابه إلى حُنين، وكان معه مَن كان حديثَ عهدٍ بكفر ممن أسلمَ قريبًا ومروا بِسِدْرَةٍ عظيمة، كما قال أبو واقدٍ الليثي -رضي الله تبارك وتعالى عنه- في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره وهو حديثٌ صحيحٌ، قالوا: يا رسولَ الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذاتُ أنواط! فقال: "الله أكبر! قلتم -والذي نفسي بيده- كما قال بنو إسرائيلَ لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة".
فمع صدق المعتقد، وإحسان المتابعة، وقعت مخالفة لحداثة عهد بكفر، وكانوا سائرين غازين في سبيل رب العالمين، سائرين لملاقاة العدو، لا يدري إلا اللهُ وحده، ولا يعلمُ سواه مَن يعودُ؟ ممن يُستشهد؟ ومَن يُسلَّمُ؟ ممن يُجرحُ؟!
ومع ذلك لم يُعفهم رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من المتابعة والمؤاخذة والتصحيح، وجعل هذا الأمر بتلك المثابة؛ فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهُ أكبر!"، وفي رواية: "سبحانَ الله!"، يتعجبُ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- "قلتم -والذي نفسي بيده- كما قال بنو إسرائيلَ لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة".
فجعلَ الشَّبَه معقودًا بين هذه المقالة: "اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواط" مع مقالة بني إسرائيلَ لموسى -عليه السلام-: "اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة".
فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يبيَّنُ لهم عِظَمَ ما لفظوا به، وما قالوه من هذا الأمر الكبير من أجل تصحيح المعتقد؛ إذ هم سائرون إلى ملاقاة العدو، والنصرُ لا يكون إلا مع صحة المعتقد، وتمام المتابعة للرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وقد تبدَّى نحوٌ من ذلك بعد، والصحابةُ هم الصحابةُ -رضوان الله عليهم- في ثباتهم ويقينهم وإيمانهم ومتابعتهم لرسولهم -صلى الله عليه وآله وسلم- لما نظروا إلى جمعهم أعجبتهم كثرتهم؛ فدخلَ شيءٌ من الإعجاب والعُجبِ بعضَ القلوب.
والعُجبُ إذا شابَ القلبَ أثَّرَ بعد تأثيرٍ على سلامة المعتقد، قال ربنا -جل وعلا-: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25].
فمع سلامة المعتقد، وصدق المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالالتزام بالسنة، ظهرَ شيءٌ من العُجبِ، فقال قائلهم: لن نُهزمَ اليومَ من قلة! فحُرموا النصرَ أولاً.
فكيفَ بالذين على معتقدٍ باطلٍ؟! يُشركونَ بالله -جل وعلا- غيرَه، ويعبدونَ سواه، ويتوجهونَ بكثيرٍ من العبادات القلبية والقولية وعبادات الجوارح لغير الله -عز وجل- فأنى لهم النصرُ؟! ثم أنى لهم النصرُ؟! ثم أنى لهم النصر؟!
مع صحةِ المعتقد، وتمامِ الالتزام بالسنة من أصحاب رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لما ظهرَ شيءٌ من العُجب وقال قائلُهم: لن نُهزمَ اليومَ من قلة! حرمهم اللهُ النصرَ أولاً ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:25].
وهم أصحابُ النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-!
وفي "أُحُد" قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للرماة: "إن رأيتمونا تخطَّفنا الطيرُ؛ فلا تبرحوا من مكانكم".
قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: لا تبرحوا. "إن رأيتمونا ظهرنا عليهم؛ فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا؛ فلا تُعينونا".
فتركوا أماكنهم وخالفوا رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع صدق المعتقد وتمام المتابعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما وقعت مخالفة؛ فتركوا أماكنهم التي أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يبرحوها: أمرهم أن يلزموها، وألا يُفارقوها؛ فلما خالفوا في هذا وقعت الكثرة، وقُتلَ منهم سبعون، ووقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما وقع! وصاح الشيطانُ قُتلَ محمدٌ!! -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان أمرًا عصيبًا وخَطْبًا جسيمًا حتى تداركهم اللهُ -رب العالمين- برحمته وتاب عليهم -رضوان الله عليهم أجمعين- ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:165].
قل هو من عند أنفسكم!
وإذا كان المقاتلون على معتقدٍ صحيحٍ، وصدقٍ في الالتزام بالسنة ثم خالفوا الرسولَ -صلى الله عليه وآله وسلم- حُرموا النصرَ! فكيف إذا كانوا مفارقين للسنة من أصلهم؟!! منتسبين إلى طائفةً مبتدعةٍ من نشأتهم!! فكيف ينصرون؟!!
وهؤلاء أصحابُ النبي -صلى الله عليه وسلم- مع صحةِ المعتقد وتمام المتابعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما خالفوه في أمر، حُرموا النصرَ!!
فكيف بالذين لا يصدقون في معتقدهم؟!! بل يشركون بربهم!! وكيف بالذين تربوا في أحضان المبتدعة على المناهج المبتدعة مخالفين أمرَ رسولِ الله؟!! أنى يُنصرون؟!!
لا يكونُ النصرُ إلا مع صحة الاعتقاد، والتزامِ سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ينبغي أن تُعلَّمَ الأمةُ هذا: من دروس القرآن العظيم مما وقعَ في حُنين، ومما وقعَ في أُحُد لأصحاب النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
لم يقبلِ اللهُ -رب العالمين- أن تعجبهم كثرتهم؛ لأن النصرَ من عند الله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران:123].
نصرهم اللهُ -رب العالمين- مع قلة العَتاد، ومع قلة العدد، ومع وفرتهما مع الكفار والمشركين، أنزلَ اللهُ نصرَه، وأعظمَ على المشركين بأسَه، وكان نصرًا عزيزًا مُؤَزَّرًا.
صحَّ الاعتقادُ ولم يَشُبْهُ شيءٌ، وصحت المتابعةُ فلم يَشُبْها شيءٌ؛ فجاءَ النصرُ من عند الله -جل وعلا.
واللهُ -رب العالمين- يُربي المسلمين على هذين الأمرين العظيمين.
إياكم أن يداخلكم في قلوبكم عُجبٍ! بكثرتكم، بوفرتكم، بحركتكم؛ فهذا كله لا يُغني عنكم شيئًا، وستولون مدبرين، وإياكم أن تخالفوا أمرَ النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إخلاصُ الدين لله -تعالى- وتجريد المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-...
الصدقُ باطنًا وظاهرًا، والإحسانُ ظاهرًا وباطنًا...
الالتزامُ بأمر الله وبأمر رسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-...
خلاصُ الأمةِ فيهما، مخالفتهما لا تؤدي إلى خير.
وما زال الناسُ مشغولين، ينظِّرون ويقعِّدون، وكأنَّ هذه الأمور لم تُقتلْ بحثًا على مر الدهور والعصور، وكأنَّ سلفَنا من أئمتنا الصالحين لم يُحرروها ولم يُدققوا النظرَ فيها!!
ما زال إلى اليوم مَن يتكلمُ في تكفير الحاكم للخروج عليه!! وفي الخروج سِلمًا وحَربًا!! والأمةُ في فوضى!!!
لا يلتفتون!!
لا يحذِّرون من الدماء!!
لا يحذِّرون من انتهاك الأعراض!!
لا يحذِّرون من استلابِ الأموال!!
لا يحذِّرون من الاعتداء على الممتلكات!!
لا يعلِّمون الناسَ الصدقَ والإحسانَ!! بتوحيد الله، ومتابعةِ رسولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
القومُ -يا صاحبي- سادِرون فيما هم فيه: يُنظِّرون ويُقعِّدون ويريدون الوصولَ إلى ما عند الله بمعصية الله! وما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعته.
وما حدثَ قطُّ أن نِيلَ ما عند الله بمعصيته، "ما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعته".
تعليمُ الأمة ما جاء به نبيُّ الأمة -صلى الله عليه وآله وسلم- من التوحيد والمتابعة، سرُّ الخلاص، سرُّ النجاة، سرُّ القيام بأمر الله.
توحيدُ الله ومتابعة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ضيِّقوا النظرَ، قصيروه كأنهم لا يعلمون ما يجري في ربوع الكِنانة: من اعتداءاتٍ، واغتصابٍ، وإراقةٍ للدماء، وترويعٍ للأبرياء، وسلبٍ للثروات، وقطعٍ للطرق، وتخريبٍ للمنشئات!!
كلُّ مَن تسببَ في هذا بطريق مباشر أو غير مباشر؛ فعليه كِفلٌ من وزره وإثمه.
والذين أخرجوا الناسَ، ولم يخرج الناسُ في جملتهم من العوام الذين لا يُحسنون النظرَ في مآلات الأمور، لم يخرجوا؛ لأنهم يتبعون الماسونيين أو يلجئون إلى مخططات الصهيونيين، لا، وإنما حُرِّكوا؛ فتحركوا!!
فإثمُ حركتكم على مَن حرَّكهم، على مَن أخرجهم حتى وقعت الفوضى في الديار!!
ثم يقولُ قائلُهم اليومَ: لم نأمر الناسَ ولم نطلب منهم النزولَ حتى لا تحدث الفوضى!
وقد حدثت يا صاح! وكنتَ من أعظم مُحركيها ومسببيها؛ فاتقَ اللهَ في قولك، وَأْمُرِ الناسَ أن يلزموا الجادةَ المستقيمة، جادةَ الإسلام العظيم بإخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الدعوةُ إلى الله -جل وعلا- أساليبُها توقيفية؛ فما لم يكن يومئذٍ دينًا؛ فلن يكونَ اليومَ دينًا! ولن يكونَ يومًا من الأيام دينًا.
والأمةُ في هذه المرحلة الدقيقة من مسيرتها وحياتها لا تتحملُ التجريبَ، لا تتحملُ التجاربَ الفاشلةَ التي يُدخلُ القومُ الأمةَ فيها باسم الدين من أجل إراقة الدماء وإشعال النيران في جنبات الوطن المسلم؛ كي يضيع كما ضاقت أوطان؛ لكي يُمزق كما مُزقت بُلدان؛ لكي يُشتتَ أهلُه ويُشردَ قاطنوه من أجل أن يُساموا الخسفَ والذلَ والفقرَ والهوانَ.
من أجل ألا يُرفع بين ظهرانيهم أذان، كلُّ هذا بما كان.. إنما كان بمخالفة منهج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ودعوكم من أولئك المنظرين؛ فإنهم لا يُحسنون الدين فضلاً عن الحياة.
والله يتولاكم ويرعاكم، ويُسدد على طريق الحق خُطاكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وفرَّغه/
أبو عبدالرحمن حمدي آل زيد المصريّ
5 من ذي القعدة 1432هـ، الموافق 3/10/2011م.
مواضيع مماثلة
» [تفريغ] [خطبة جمعة] [أصول دعوتنا] - فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان
» [تفريغ] [خطبة جمعة] [موطن النزاع في التكفير والحاكمية] - لفضيلة الشيخ [محمد سعيد رسلان]
» [خطبة مفرغة] الاحتفال بالمولد النبوي - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: القنوط من رحمة الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: تعظيم حرمات الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
» [تفريغ] [خطبة جمعة] [موطن النزاع في التكفير والحاكمية] - لفضيلة الشيخ [محمد سعيد رسلان]
» [خطبة مفرغة] الاحتفال بالمولد النبوي - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: القنوط من رحمة الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
» خطبة الجمعة: تعظيم حرمات الله - الشيخ محمد سعيد رسلان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى