لا تقل: أنا ضعيف الحفظ.. لكن قل: أنا ضعيف الهمة!
صفحة 1 من اصل 1
لا تقل: أنا ضعيف الحفظ.. لكن قل: أنا ضعيف الهمة!
أقول لك جازمًا: لا تقل "أنا ضعيف الحفظ"!
قد تتعجب وتقول لي:
لماذا تقول ذلك؟ فأنا ضعيف الحفظ فعلا، بل لم أر أحدًا على ظهر الأرض أضعف حفظًا مني.
فأنا أحاول وأحاول مرارًا وتكرارًا أن أحفظ شيئًا من الأشياء، فأخفق أحيانًا كثيرة، وحتى في الأحيان القليلة التي أنجح فيها، لا أجد الحفظ مستقرًّا في ذهني، بل سرعان ما يذهب أدراج الرياح، فأنساه تماما، وكأني لم أحفظه أصلا!!
وقد يقول آخر:
ما هذا الهراء الذي تقوله؟ لا يشك أحد أن هناك بعض الناس لديهم ذاكرة قوية، وبعضهم لديهم ذاكرة ضعيفة، فكيف تزعم أن المشكلة في الهمة لا في الذاكرة؟!
وقد يقول ثالث:
وما علاقة الهمة بالموضوع؟ العبرة بالمنحة الربانية التي يرزقها الله بعض عباده؛ ألم يكن الإمام البخاري يحفظ من مرة واحدة؟ ألم يقل الزهري: ما رأيت سوداء في بيضاء قط فنسيتها، إلى غير ذلك من الأقوال الشائعة عن السلف.
ولكني أسارع فأجيب عن جميع هذه الاعتراضات بقولي:
يا أخي الكريم، يا طالب العلم، لا ينبغي لك أن تقول: أنا ضعيف الحفظ؛ حتى لو فرضنا جزمًا وقطعًا أنك ضعيف الحفظ، فلا ينبغي لك أن تقول هذا مطلقا؛ لأسباب كثيرة:
• منها أن هذا القول يشبه (الشماعة) التي يعلق عليها الإنسانُ ضعفه.
• ومنها أن هذا القول لا يفيدك شيئًا إلا التثبيط والإحباط.
• ومنها أن هذا القول يحملك على الإزراء بالحفظ والحفاظ.
• ومنها أن هذا القول يحملك على الاقتناع بأشياء لا أساس لها من الصحة.
• بل منها أن هذا القول نفسه قد يحملك على ترك طلب العلم من أصله.
ثم أثني على ما سبق فأقول:
يا من تقول هذا القول، ما يدريك أنك فعلا ضعيف الحفظ؟! وهل تعرف ما الحفظ؟ وما آليات الحفظ؟ وما وسائل تقوية الحفظ؟ وما وسائل تثبيت الحفظ؟ وهل حاولت أن تسير على نهج الحفاظ؟ وهل مشيت على الدرب؟ أم أنك استصعبت الطريقَ ورأيته طويلا فسوّلت لك نفسُك أن اتهام الحفظ هو أسهل الطرق لتحصيل العلم؟!
هناك من الحفاظ من يكرر درسه ألف مرة حتى يحفظه؟! فبالله عليك هل حاولت مرة واحدة في حياتك أن تكرر شيئًا ألف مرة؟!
وهناك أشياء لا بد أنك تحفظها، فلماذا لم تسأل نفسك: ما السبب في حفظي لهذه الأشياء دون غيرها؟
قد تقول: إن هذه الأشياء قد حفظتها في الصغر وأنا الآن كبير!!.
وأسارع فأقول لك:
من المعلومات الشائعة عند كثير من الناس أن الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، وأن الحفظ في الكبر كالنقش على الماء. ولا شك أن الجملة الأولى صحيحة، ولكن الكلام في الجملة الثانية! فهي باطلة تمامًا!! وأحسن حالها أن تكون وصفًا لحال الكبر عند كثير من الناس، وليست بيانًا لعلة ضعف الحفظ، فإن سبب ضعف الحفظ في الكبر هو إهمال هذه الملكة التي تولد مع الإنسان، وعند التأمل يظهر أن ذلك حال كل شيء؛ فإن كل شيء إذا ترك فإنه يضمر، ولذلك ترى الحافظ أيضًا إذا أهمل تدريب عقله على الذكاء والفهم يضعف فهمه وعقله، ويصير كأنه آلة للتسجيل فقط.
ولا بد من الممارسة والاستمرار لكي يحافظ الإنسان على ما عنده من ملكات وقدرات ومهارات.
• كان فلان الرياضي على لياقة بدنية عالية جدا، ولكنه صار سمينًا مترهلا ضعيفا بسبب إهمال الممارسة وترك التدريب، فلا تقل لي بربك إن السبب في ذلك هو أنه قد صار كبيرًا!
• كان فلان العامل ذكيًّا في السنة الأولى الابتدائية، وأبدى نشاطًا عقليًّا ملحوظًا، إلا أنه ترك المدرسة ولم يكمل تعليمه، وأهمل تثقيف نفسه وتدريب عقله، فصار غبيًّا جاهلا لا يكاد يفقه شيئا، فلا تقل لي بالله عليك إن السبب في ذلك أنه صار كبيرًا!
فالسبب الحقيقي وراء ضعف الذاكرة (عند الكبر) هو إهمالها وعدم صقلها؛ لأن كل شيء يضعف إذا ترك وأهمل كما هو معروف، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن لا يغفل عن ممارسة الحفظ وتقوية ذاكرته دائمًا وأبدًا، ومهما طال به العمر؛ لأن ذلك -فوق أنه يزيده علما وحفظا للجديد- يحافظ على ما كان قد حفظه قديمًا فلا يتطرق إليه النسيان إلا بصعوبة.
فالمقصود أن طالب العلم لا يستغني عن تقوية ملكاته وقدراته جميعا؛ ومنها:
• تقوية مهارة الحفظ
• وتقوية مهارة الفهم
• وتقوية سرعة البديهة
• وتقوية التفكير والاستنباط
• وتقوية مهارة قراءة ما بين السطور
• وتقوية مهارة سرعة الكتابة
• وتقوية مهارة سرعة القراءة
• وتقوية مهارة التنظيم والترتيب
وغير ذلك كثير، من المهارات المهمة جدًّا لطالب العلم، ولا يستغني عن معظمها، ولكن مع الأسف كثير من الناس لا يستطيعون السير في طرق متوازية لتقوية جميع هذه الملكات، فتراهم يؤثرون بعضها على بعض، إما جهلا بقيمة ما بقي، وإما إيثارًا للدعة والراحة!
فعليك أن لا يمر بك يوم إلا وقد حفظت شيئًا جديدًا، وأيضًا فلا ينبغي أن تحفظ شيئًا إلا وتربطه ببعض كنت حفظته من قبل، ومن المفترض أن يكون ذلك تلقائيًّا، ولكنه أحيانًا يتخلف لسبب عارض.
ومن عجائب الحفظ أن العقل يمكنه أيضًا أن يحتفظ بذكرياته وما حصل له يومًا بيوم!! وذلك إذا ارتبط ذلك عنده بمحفوظ، فلو فرضنا أنك حفظت كل يوم بيتًا وكررته طوال اليوم في مسيرك وذهابك وإيابك فإنك عند استذكار هذا البيت ستتذكر تلقائيًّا أنك مررت بالمكان الفلاني عند حفظ البيت، وأنك كنت تفعل كذا وكذا وقت حفظ هذا البيت، وأنه في هذا اليوم الذي حفظت فيه البيت حصل كذا وكذا.
وكل هذه أشياء مجربة وليست بدعًا من القول.
كما أن الحفظ المستمر يقوي الحافظة ويزيد من قدرتها على الحفظ، فتستطيع حينئذ أن تحفظ قدرًا أكبر في مدة أقل، وهذا أيضًا يقوي الحافظة مرة أخرى ويزيد من قدرتها، وهكذا حتى تستطيع أن تصل إلى قدرة عالية جدا في الحفظ.
ولعل هذا هو التفسير القريب لما نراه ونسمع عنه من عجائب الحفاظ في القديم والحديث.
والله تعالى أعلم.
منقول
قد تتعجب وتقول لي:
لماذا تقول ذلك؟ فأنا ضعيف الحفظ فعلا، بل لم أر أحدًا على ظهر الأرض أضعف حفظًا مني.
فأنا أحاول وأحاول مرارًا وتكرارًا أن أحفظ شيئًا من الأشياء، فأخفق أحيانًا كثيرة، وحتى في الأحيان القليلة التي أنجح فيها، لا أجد الحفظ مستقرًّا في ذهني، بل سرعان ما يذهب أدراج الرياح، فأنساه تماما، وكأني لم أحفظه أصلا!!
وقد يقول آخر:
ما هذا الهراء الذي تقوله؟ لا يشك أحد أن هناك بعض الناس لديهم ذاكرة قوية، وبعضهم لديهم ذاكرة ضعيفة، فكيف تزعم أن المشكلة في الهمة لا في الذاكرة؟!
وقد يقول ثالث:
وما علاقة الهمة بالموضوع؟ العبرة بالمنحة الربانية التي يرزقها الله بعض عباده؛ ألم يكن الإمام البخاري يحفظ من مرة واحدة؟ ألم يقل الزهري: ما رأيت سوداء في بيضاء قط فنسيتها، إلى غير ذلك من الأقوال الشائعة عن السلف.
ولكني أسارع فأجيب عن جميع هذه الاعتراضات بقولي:
يا أخي الكريم، يا طالب العلم، لا ينبغي لك أن تقول: أنا ضعيف الحفظ؛ حتى لو فرضنا جزمًا وقطعًا أنك ضعيف الحفظ، فلا ينبغي لك أن تقول هذا مطلقا؛ لأسباب كثيرة:
• منها أن هذا القول يشبه (الشماعة) التي يعلق عليها الإنسانُ ضعفه.
• ومنها أن هذا القول لا يفيدك شيئًا إلا التثبيط والإحباط.
• ومنها أن هذا القول يحملك على الإزراء بالحفظ والحفاظ.
• ومنها أن هذا القول يحملك على الاقتناع بأشياء لا أساس لها من الصحة.
• بل منها أن هذا القول نفسه قد يحملك على ترك طلب العلم من أصله.
ثم أثني على ما سبق فأقول:
يا من تقول هذا القول، ما يدريك أنك فعلا ضعيف الحفظ؟! وهل تعرف ما الحفظ؟ وما آليات الحفظ؟ وما وسائل تقوية الحفظ؟ وما وسائل تثبيت الحفظ؟ وهل حاولت أن تسير على نهج الحفاظ؟ وهل مشيت على الدرب؟ أم أنك استصعبت الطريقَ ورأيته طويلا فسوّلت لك نفسُك أن اتهام الحفظ هو أسهل الطرق لتحصيل العلم؟!
هناك من الحفاظ من يكرر درسه ألف مرة حتى يحفظه؟! فبالله عليك هل حاولت مرة واحدة في حياتك أن تكرر شيئًا ألف مرة؟!
وهناك أشياء لا بد أنك تحفظها، فلماذا لم تسأل نفسك: ما السبب في حفظي لهذه الأشياء دون غيرها؟
قد تقول: إن هذه الأشياء قد حفظتها في الصغر وأنا الآن كبير!!.
وأسارع فأقول لك:
من المعلومات الشائعة عند كثير من الناس أن الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، وأن الحفظ في الكبر كالنقش على الماء. ولا شك أن الجملة الأولى صحيحة، ولكن الكلام في الجملة الثانية! فهي باطلة تمامًا!! وأحسن حالها أن تكون وصفًا لحال الكبر عند كثير من الناس، وليست بيانًا لعلة ضعف الحفظ، فإن سبب ضعف الحفظ في الكبر هو إهمال هذه الملكة التي تولد مع الإنسان، وعند التأمل يظهر أن ذلك حال كل شيء؛ فإن كل شيء إذا ترك فإنه يضمر، ولذلك ترى الحافظ أيضًا إذا أهمل تدريب عقله على الذكاء والفهم يضعف فهمه وعقله، ويصير كأنه آلة للتسجيل فقط.
ولا بد من الممارسة والاستمرار لكي يحافظ الإنسان على ما عنده من ملكات وقدرات ومهارات.
• كان فلان الرياضي على لياقة بدنية عالية جدا، ولكنه صار سمينًا مترهلا ضعيفا بسبب إهمال الممارسة وترك التدريب، فلا تقل لي بربك إن السبب في ذلك هو أنه قد صار كبيرًا!
• كان فلان العامل ذكيًّا في السنة الأولى الابتدائية، وأبدى نشاطًا عقليًّا ملحوظًا، إلا أنه ترك المدرسة ولم يكمل تعليمه، وأهمل تثقيف نفسه وتدريب عقله، فصار غبيًّا جاهلا لا يكاد يفقه شيئا، فلا تقل لي بالله عليك إن السبب في ذلك أنه صار كبيرًا!
فالسبب الحقيقي وراء ضعف الذاكرة (عند الكبر) هو إهمالها وعدم صقلها؛ لأن كل شيء يضعف إذا ترك وأهمل كما هو معروف، ولذلك فينبغي لطالب العلم أن لا يغفل عن ممارسة الحفظ وتقوية ذاكرته دائمًا وأبدًا، ومهما طال به العمر؛ لأن ذلك -فوق أنه يزيده علما وحفظا للجديد- يحافظ على ما كان قد حفظه قديمًا فلا يتطرق إليه النسيان إلا بصعوبة.
فالمقصود أن طالب العلم لا يستغني عن تقوية ملكاته وقدراته جميعا؛ ومنها:
• تقوية مهارة الحفظ
• وتقوية مهارة الفهم
• وتقوية سرعة البديهة
• وتقوية التفكير والاستنباط
• وتقوية مهارة قراءة ما بين السطور
• وتقوية مهارة سرعة الكتابة
• وتقوية مهارة سرعة القراءة
• وتقوية مهارة التنظيم والترتيب
وغير ذلك كثير، من المهارات المهمة جدًّا لطالب العلم، ولا يستغني عن معظمها، ولكن مع الأسف كثير من الناس لا يستطيعون السير في طرق متوازية لتقوية جميع هذه الملكات، فتراهم يؤثرون بعضها على بعض، إما جهلا بقيمة ما بقي، وإما إيثارًا للدعة والراحة!
فعليك أن لا يمر بك يوم إلا وقد حفظت شيئًا جديدًا، وأيضًا فلا ينبغي أن تحفظ شيئًا إلا وتربطه ببعض كنت حفظته من قبل، ومن المفترض أن يكون ذلك تلقائيًّا، ولكنه أحيانًا يتخلف لسبب عارض.
ومن عجائب الحفظ أن العقل يمكنه أيضًا أن يحتفظ بذكرياته وما حصل له يومًا بيوم!! وذلك إذا ارتبط ذلك عنده بمحفوظ، فلو فرضنا أنك حفظت كل يوم بيتًا وكررته طوال اليوم في مسيرك وذهابك وإيابك فإنك عند استذكار هذا البيت ستتذكر تلقائيًّا أنك مررت بالمكان الفلاني عند حفظ البيت، وأنك كنت تفعل كذا وكذا وقت حفظ هذا البيت، وأنه في هذا اليوم الذي حفظت فيه البيت حصل كذا وكذا.
وكل هذه أشياء مجربة وليست بدعًا من القول.
كما أن الحفظ المستمر يقوي الحافظة ويزيد من قدرتها على الحفظ، فتستطيع حينئذ أن تحفظ قدرًا أكبر في مدة أقل، وهذا أيضًا يقوي الحافظة مرة أخرى ويزيد من قدرتها، وهكذا حتى تستطيع أن تصل إلى قدرة عالية جدا في الحفظ.
ولعل هذا هو التفسير القريب لما نراه ونسمع عنه من عجائب الحفاظ في القديم والحديث.
والله تعالى أعلم.
منقول
رد: لا تقل: أنا ضعيف الحفظ.. لكن قل: أنا ضعيف الهمة!
أيمن بن أحمد ذوالغنى - دمشقي مقيم في الرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
جزى الله خيرًا أخانا الفاضل الألمعيَّ أبا مالك العوضي على ما يتحفنا به كل حين من ثمرات مطالعاته وتأملاته...
وقد أثارت مقالته هذه في نفسي شجونًا ورغبت في البوح بشيء منها..
كان شيخنا الجليل العلامة الرباني عبدالرحمن الباني - عليه رحمات الله - كثيرًا ما ينبِّه على ضرورة العناية بتعهُّد الملكات... كان يقول: كل إنسان زوَّده الله بكثير من الملكات، وعليه أن يعمل باستمرار على تنشيطها وشحذها والارتقاء بها، وإلا ضعفت - أو ضعف ما أهمل منها - حتى تلاشت..
ومن هنا أن كان يحرص على توجيه الأطفال والفتيان والكبار في مجلسه إلى العناية ببعض الملكات؛ مثل: إجراء العمليات الحسابية ذِهنيًّا، ومعرفة الجهات الأربع، وتحديد جهة القِبلة في الأماكن المختلفة، والحفظ والاستحضار...
والحفظ في الصغر لا يكاد يمحى من الذاكرة..
وقد عرفت ذلك ولمسته في سيدي الوالد متعه الله بالعافية، فمع تخصصه في الفيزياء والكيمياء وتبريزه فيهما وانقطاعه لهما؛ تحصيلاً وتعليمًا وتأليفًا.. ما يزال محتفظًا بزاد ضخم من المحفوظات الأدبية؛ شعرًا ونثرًا... وذلك أنه تتلمذ لأساطين العربية في عصره في مراحل دراسته الأولى؛ كالسادة العلماء والأساتذة الأفاضل: سعيد الأفغاني، وعز الدين علم الدين التنوخي، ومحمد البزم، وعلي الطنطاوي، ومحمد بن عبد القادر المبارك، ود. زكي المحاسني...
وما يزال وقد جاوز الخامسة والثمانين من عمره المبارك يحفظ الكثير الكثير من عيون الشعر العربي، ويستحضر محفوظاته منها، بارك الله في عمره وأحسن ختامي وختامه.
ثم عرفت هذا الأمر في نفسي؛ فقد كان الوالد حفظه الله - في أثناء قيادته للسيارة وهو يوصلني إلى مدرستي الابتدائية ويعيدني منها - كثيرًا ما يردِّد على مسمعي، قصائد مختارة وأبياتًا منتقاة، إلى بعض المقامات الأدبية، والطرائف من قصص ونِكات... وقد حفظت كثيرًا من ذلك، وبقي أثر ما حفظت في نفسي عميقًا عميقًا، حتى شببت وغدوت عاشقًا للبيان وللكلمة البليغة..
وأذكر قبل سنوات قليلة كلِّفت التدريسَ في حلقة قرآنية بأحد مساجد الرياض، وجرى مع طلابي من الفتيان ذكرُ المقامات الأدبية، فحدثتهم عنها وعن خصائصها... وأخبرتهم أنني كنت أستظهر بعضها وأنا طفل في الصف الثالث الابتدائي، وأن من أحبِّها إليَّ المقامة البغدادية للهمذاني، ومطلعها: حدثنا عيسى بن هشام قال: اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداذ... ووجدتني أرويها كاملة من حفظي لم أتلكَّأ منها في كلمة، ولم أنقص منها حرفًا... وقد فوجئت بذلك؛ إذ غبر على حفظي لها زمن مديد قارب ربع قرن، ولا أذكر أني راجعتها إلا أيام الدراسة الجامعية!!
ثم عرفت الأمر في ولدي الغالي أحمد سلمه الله، فقد رأيت منه في طفولته الأولى التململَ من الحفظ والتضجرَ من الاستظهار، مع أنه أتم في تلكم المرحلة حفظ جزء عم كاملاً.. ولكن شدة نفوره من الحفظ جعلتني أستشير أستاذي الفاضل د. عبد الكريم بكار، فأشار علي - حفظه الله - ألا ألحَّ عليه بالحفظ، وأن أعملَ على تنمية ملكاته الأخرى؛ كالفهم والاستيعاب والمقارنة والملاحظة... إلخ، وهذا ما كان...
إلى أن قدَّر الله وهو في الصف الثاني الابتدائي أن يحضرَ عرضًا تلفازيًّا لمسرحية سورية قديمة، وتكرر رؤيته لها مرتين... وإذا به يفاجئني بعد مدَّة بحفظ المسرحية على طولها عن ظهر قلب؛ نصوصًا وأناشيد ونبرات يحاكي فيها الممثلين محاكاة ويقلدهم تقليدًا!!
وحينئذٍ أدركت أنني فرطت في العناية بملكة الحفظ عنده، وتنبهت إلى ضرورة اتباع أساليب محببة إلى نفسه تعينه عليه..
فصرت أجمع له بين اللعب والحفظ، أردِّد عليه البيت من معلقة زهير مغنًّى وأنا أرمي بالكرة إليه، وهو يعيد عليَّ البيت مع ردِّ الكرة إلي... ولم يلبث في زمن قصير أن حفظ معلقة زهير كاملة حفظًا جيدًا متقنًا، ثم حفظ قسمًا من معلقة عنترة، فقصائد من شعر إمامنا الشافعي، وشعر المتنبي، وعمر أبو ريشة، وبعض الخطب كخطبة قس بن ساعدة، وخطبة حجة الوداع... وغيرها.
وظهر بوضوح قدرته على الحفظ السريع دون مشكلة، ولكنه كان بحاجة إلى أسلوب مشوق يعينه على الحفظ والاستظهار..
وبعد:
فتلكم خواطر عرضت لي بعد قراءة كلمة أخي أبي مالك أحسن الله إليه، فله الفضل في استخراجها، ولله الحمد من قبل ومن بعد أن هدانا لسبل العلم والمعرفة، وحبب إلينا القراءة والكتابة، ومنَّ علينا بنعمة الإبانة عن خواطر النفس وعما يجيش فيها من أفكار ومعان..
بسم الله الرحمن الرحيم
جزى الله خيرًا أخانا الفاضل الألمعيَّ أبا مالك العوضي على ما يتحفنا به كل حين من ثمرات مطالعاته وتأملاته...
وقد أثارت مقالته هذه في نفسي شجونًا ورغبت في البوح بشيء منها..
كان شيخنا الجليل العلامة الرباني عبدالرحمن الباني - عليه رحمات الله - كثيرًا ما ينبِّه على ضرورة العناية بتعهُّد الملكات... كان يقول: كل إنسان زوَّده الله بكثير من الملكات، وعليه أن يعمل باستمرار على تنشيطها وشحذها والارتقاء بها، وإلا ضعفت - أو ضعف ما أهمل منها - حتى تلاشت..
ومن هنا أن كان يحرص على توجيه الأطفال والفتيان والكبار في مجلسه إلى العناية ببعض الملكات؛ مثل: إجراء العمليات الحسابية ذِهنيًّا، ومعرفة الجهات الأربع، وتحديد جهة القِبلة في الأماكن المختلفة، والحفظ والاستحضار...
والحفظ في الصغر لا يكاد يمحى من الذاكرة..
وقد عرفت ذلك ولمسته في سيدي الوالد متعه الله بالعافية، فمع تخصصه في الفيزياء والكيمياء وتبريزه فيهما وانقطاعه لهما؛ تحصيلاً وتعليمًا وتأليفًا.. ما يزال محتفظًا بزاد ضخم من المحفوظات الأدبية؛ شعرًا ونثرًا... وذلك أنه تتلمذ لأساطين العربية في عصره في مراحل دراسته الأولى؛ كالسادة العلماء والأساتذة الأفاضل: سعيد الأفغاني، وعز الدين علم الدين التنوخي، ومحمد البزم، وعلي الطنطاوي، ومحمد بن عبد القادر المبارك، ود. زكي المحاسني...
وما يزال وقد جاوز الخامسة والثمانين من عمره المبارك يحفظ الكثير الكثير من عيون الشعر العربي، ويستحضر محفوظاته منها، بارك الله في عمره وأحسن ختامي وختامه.
ثم عرفت هذا الأمر في نفسي؛ فقد كان الوالد حفظه الله - في أثناء قيادته للسيارة وهو يوصلني إلى مدرستي الابتدائية ويعيدني منها - كثيرًا ما يردِّد على مسمعي، قصائد مختارة وأبياتًا منتقاة، إلى بعض المقامات الأدبية، والطرائف من قصص ونِكات... وقد حفظت كثيرًا من ذلك، وبقي أثر ما حفظت في نفسي عميقًا عميقًا، حتى شببت وغدوت عاشقًا للبيان وللكلمة البليغة..
وأذكر قبل سنوات قليلة كلِّفت التدريسَ في حلقة قرآنية بأحد مساجد الرياض، وجرى مع طلابي من الفتيان ذكرُ المقامات الأدبية، فحدثتهم عنها وعن خصائصها... وأخبرتهم أنني كنت أستظهر بعضها وأنا طفل في الصف الثالث الابتدائي، وأن من أحبِّها إليَّ المقامة البغدادية للهمذاني، ومطلعها: حدثنا عيسى بن هشام قال: اشتهيت الأزاذ وأنا ببغداذ... ووجدتني أرويها كاملة من حفظي لم أتلكَّأ منها في كلمة، ولم أنقص منها حرفًا... وقد فوجئت بذلك؛ إذ غبر على حفظي لها زمن مديد قارب ربع قرن، ولا أذكر أني راجعتها إلا أيام الدراسة الجامعية!!
ثم عرفت الأمر في ولدي الغالي أحمد سلمه الله، فقد رأيت منه في طفولته الأولى التململَ من الحفظ والتضجرَ من الاستظهار، مع أنه أتم في تلكم المرحلة حفظ جزء عم كاملاً.. ولكن شدة نفوره من الحفظ جعلتني أستشير أستاذي الفاضل د. عبد الكريم بكار، فأشار علي - حفظه الله - ألا ألحَّ عليه بالحفظ، وأن أعملَ على تنمية ملكاته الأخرى؛ كالفهم والاستيعاب والمقارنة والملاحظة... إلخ، وهذا ما كان...
إلى أن قدَّر الله وهو في الصف الثاني الابتدائي أن يحضرَ عرضًا تلفازيًّا لمسرحية سورية قديمة، وتكرر رؤيته لها مرتين... وإذا به يفاجئني بعد مدَّة بحفظ المسرحية على طولها عن ظهر قلب؛ نصوصًا وأناشيد ونبرات يحاكي فيها الممثلين محاكاة ويقلدهم تقليدًا!!
وحينئذٍ أدركت أنني فرطت في العناية بملكة الحفظ عنده، وتنبهت إلى ضرورة اتباع أساليب محببة إلى نفسه تعينه عليه..
فصرت أجمع له بين اللعب والحفظ، أردِّد عليه البيت من معلقة زهير مغنًّى وأنا أرمي بالكرة إليه، وهو يعيد عليَّ البيت مع ردِّ الكرة إلي... ولم يلبث في زمن قصير أن حفظ معلقة زهير كاملة حفظًا جيدًا متقنًا، ثم حفظ قسمًا من معلقة عنترة، فقصائد من شعر إمامنا الشافعي، وشعر المتنبي، وعمر أبو ريشة، وبعض الخطب كخطبة قس بن ساعدة، وخطبة حجة الوداع... وغيرها.
وظهر بوضوح قدرته على الحفظ السريع دون مشكلة، ولكنه كان بحاجة إلى أسلوب مشوق يعينه على الحفظ والاستظهار..
وبعد:
فتلكم خواطر عرضت لي بعد قراءة كلمة أخي أبي مالك أحسن الله إليه، فله الفضل في استخراجها، ولله الحمد من قبل ومن بعد أن هدانا لسبل العلم والمعرفة، وحبب إلينا القراءة والكتابة، ومنَّ علينا بنعمة الإبانة عن خواطر النفس وعما يجيش فيها من أفكار ومعان..
رد: لا تقل: أنا ضعيف الحفظ.. لكن قل: أنا ضعيف الهمة!
أبو زارع المدني - جدة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرًا جزيلاً لشيخنا الفاضل الكريم أبو مالك العوضي, فقد استمتعت واستفدت من مقاله الموفق هذا, وجرى نقله على التويتر والفيس بوك.
ولي استفسار في قضايا تكرار المحفوظ:
هل يحبذ شيخنا المفضال أعداد معينة لتكرار نص ما كحد أدنى ..؟
وجزاكم الله تعالى خيرًا وبارك فيكم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرًا جزيلاً لشيخنا الفاضل الكريم أبو مالك العوضي, فقد استمتعت واستفدت من مقاله الموفق هذا, وجرى نقله على التويتر والفيس بوك.
ولي استفسار في قضايا تكرار المحفوظ:
هل يحبذ شيخنا المفضال أعداد معينة لتكرار نص ما كحد أدنى ..؟
وجزاكم الله تعالى خيرًا وبارك فيكم.
رد: لا تقل: أنا ضعيف الحفظ.. لكن قل: أنا ضعيف الهمة!
أبو مالك العوضي - السعودية
جزى الله إخواننا المعلقين خير الجزاء، وخاصة أستاذنا الفاضل أيمن ذو الغنى، على تشجيعهم لأخيهم الصغير.
وأقول لأخي الفاضل أبي زارع المدني:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أما عدد التكرار فلا يوجد له حد محدود، وكما يختلف ذلك باختلاف الناس، فهو يختلف أيضا باختلاف المحفوظ، فبعض النصوص تكون معقدة فتحتاج إلى تكرار كثير جدا، وبعضها يكون سهلا فلا يحتاج من التكرار إلا إلى القليل، فمثلا قول ابن مالك:
والفاء للترتيب باتصال ........ وثم للترتيب بانفصال
يكاد يحفظ وحده من سهولته.
أما قوله في لامية الأفعال:
تدحرجت عذيط احلولى اسبطر توا ..... لى مع تولى وخنبس سلبس اتصلا
فقد يحتاج إلى مئات المرات من التكرار حتى يثبت.
والأمر لا يعتمد على عدد مرات التكرار فقط، بل يعتمد كذلك على أوقات التكرار؛ فلا ينبغي أن تكرر المحفوظ في وقت واحد ثم تهمله بعد ذلك، بل تقسم التكرارات على الأيام، فمثلا تكرر اليوم خمسين مرة، وفي الغد عشرين مرة، وبعد يومين عشر مرات، وبعد أسبوع عشر مرات، وبعد شهر عشر مرات، وبعد ثلاثة أشهر عشر مرات، فبهذا يثبت المحفوظ؛ لأن المعلومات تحتاج إلى تخمير وهضم في العقل حتى ترسخ.
جزى الله إخواننا المعلقين خير الجزاء، وخاصة أستاذنا الفاضل أيمن ذو الغنى، على تشجيعهم لأخيهم الصغير.
وأقول لأخي الفاضل أبي زارع المدني:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أما عدد التكرار فلا يوجد له حد محدود، وكما يختلف ذلك باختلاف الناس، فهو يختلف أيضا باختلاف المحفوظ، فبعض النصوص تكون معقدة فتحتاج إلى تكرار كثير جدا، وبعضها يكون سهلا فلا يحتاج من التكرار إلا إلى القليل، فمثلا قول ابن مالك:
والفاء للترتيب باتصال ........ وثم للترتيب بانفصال
يكاد يحفظ وحده من سهولته.
أما قوله في لامية الأفعال:
تدحرجت عذيط احلولى اسبطر توا ..... لى مع تولى وخنبس سلبس اتصلا
فقد يحتاج إلى مئات المرات من التكرار حتى يثبت.
والأمر لا يعتمد على عدد مرات التكرار فقط، بل يعتمد كذلك على أوقات التكرار؛ فلا ينبغي أن تكرر المحفوظ في وقت واحد ثم تهمله بعد ذلك، بل تقسم التكرارات على الأيام، فمثلا تكرر اليوم خمسين مرة، وفي الغد عشرين مرة، وبعد يومين عشر مرات، وبعد أسبوع عشر مرات، وبعد شهر عشر مرات، وبعد ثلاثة أشهر عشر مرات، فبهذا يثبت المحفوظ؛ لأن المعلومات تحتاج إلى تخمير وهضم في العقل حتى ترسخ.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى